يقول الكتاب المقدَّس عن الرَّبّ يسوع المسيح في معرض حديثهِ عن التّجسُّد الميلاديّ:
"الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلًا لِلهِ. لَكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ، وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ، مَوْتَ الصَّلِيبِ. لِذَلِكَ رَفَّعَهُ اللهُ أَيْضًا، وَأَعْطَاهُ اسْمًا فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ، لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ، وَمَنْ عَلَى الْأَرْضِ، وَمَنْ تَحْتَ الْأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ، لِمَجْدِ اللهِ الْآبِ." (فيلبي 5:2-١١)
هذه الكلمات تؤكِّد تنازل المسيح الطوعيّ عندما أخذ صورةَ إنسانٍ وأتى إلى أرضنا وَوُلِدَ فيها لفداءِ الجنس البشريّ. هذا هو الابن الوحيد الذي قيلَ فيه: "وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الْآبِ، مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا."
(يوحنا 14:1)
لا شكَّ أنّ هذا الإعلان السّماويّ أتى بمشورةِ وإرشادِ الروح القدس الذي يشهد عن المسيح – الله الابن. فهذه الكلمات التي عبَّر فيها الرسول بولس عن هذه الشخصيَّة العظيمة (فيلبي ۲: ٥-٨) إنّما تُشير إلى فرادة شخصيَّة المسيح وكيفيَّة التّجسُّد الإلهيّ وكذا أبعاد المجيء الأول إلى عالَمِنا. فهي تُظهِرُ جوهر اللّاهوت والتّجسُّد العجيب وتُبرِزُ جوانب هذه الشخصيَّة التي طالما أذهلت الفلاسفة والباحثين عن طبيعتها وماهيَّتها. فمَن إذًا هي تلك الشخصيَّة الإلهيَّة الفريدة؟
أولًا: يسوع المسيح هو الله الخالق – لا بدَّ لنا عندما نُقدِّم رسالة الإنجيل للآخرين من أن نُظهِر المسيح الخالِق، مؤكِّدين بذلك طبيعية المسيح قبل تجسُّدهِ في الميلاد. لقد وردت في اللّغة اليونانيَّة الأصليَّة كلمة ἰʹσος isos التي تعني "الخالِق". والكتاب المقدَّس مليءٌ بالشواهد في هذا الخصوص – "فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ... كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ." (يوحنا 1:1-٣)؛ ثم "الَّذِي هُوَ صُورَةُ اللهِ غَيْرِ الْمَنْظُورِ، بِكْرُ كُلِّ خَلِيقَةٍ. فَإِنَّهُ فِيهِ خُلِقَ الْكُلُّ: مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الْأَرْضِ، مَا يُرَى وَمَا لَا يُرَى، سَوَاءٌ كَانَ عُرُوشًا أَمْ سِيَادَاتٍ أَمْ رِيَاسَاتٍ أَمْ سَلَاطِينَ. الْكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ. الَّذِي هُوَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَفِيهِ يَقُومُ الْكُلُّ." (كولوسي 15:1-١۷)؛ ثم "اللهُ... كَلَّمَنَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ، الَّذِي جَعَلَهُ وَارِثًا لِكُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي بِهِ أَيْضًا عَمِلَ الْعَالَمِينَ." (عبرانيّين 1:1-۲). أما في رسالة فيلبي، كما ذكرتُ آنفًا، يؤكِّد الرسول بولس على أحقِّيَّة المسيح في مساواتهِ مع الله الآب (فيلبي ۲)، إذ هو بهاءُ مجدهِ ورسمُ جوهرهِ، كما تؤكِّد الرسالة إلى العبرانيّين "الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الْأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ، بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيرًا لِخَطَايَانَا، جَلَسَ فِي يَمِينِ الْعَظَمَةِ فِي الْأَعَالِي." (عبرانيّين 3:1) هذه الكلمات اللّاهوتيَّة والفلسفيَّة الرائعة تُظهِر العلاقة الوثيقة بين الأقانيم الثلاثة في وحدةِ الله المتكاملة، إذ أنّ طبيعة الله التي ظهرت في المسيح وردت في اللّغة اليونانيَّة الأصليَّة في كلمة μορφηʹ morphe التي تُشير إلى المظهَر أو الإعلان الخارجيّ. بالإضافة إلى هذا الإعلان المهمّ، نرى أنّ الرسول بولس يُصرِّح بوضوحٍ لا لُبْسَ فيه عن طبيعة الناسوت بقولهِ: "فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللَّاهُوتِ جَسَدِيًّا." (كولوسي 9:2)
ثانيًا: يسوع المسيح هو مساوٍ لله الآب – عندما أعلن المسيح لتلاميذهِ أنّه "أَنَا وَالْآبُ وَاحِدٌ" (يوحنا 30:10) كان بالتّأكيد يُشير إلى المساواة في طبيعة اللّاهوت التي تكلَّم عنها الرسول بولس. فإنّ استخدام الكلمة اليونانيَّة ηʹγεʹομαι hegeomai للإشارة إلى كلمات "لَمْ يَحْسِبْ" (فيلبي ۲: ٦)، إنّما تُشير إلى صفة القائد الذي يمتلك زمام المبادرة والقُدرة على القيادة الناجحة والحكيمة. إذًا نرى من هذه الدِّراسة أنّ الرَّبّ يسوع المسيح منذ الأزل وقبل التّجسُّد كان مساويًا لله في الجوهر، وفي المقام، وفي الطبيعة، وفي الكرامة.
ثالثًا: يسوع المسيح أخلى نفسَهُ طواعيةً – هذا الإخلاء الطوعيّ بدأ بتطبيق القصد الإلهيّ قبل الأزمنة الأزليَّة في ملء الزمان، وبحسب اللّغة اليونانيَّة أيضًا نرى استخدام كلمة κενοʹω keno التي تُشير إلى تغييرٍ ما يحصل للأقنوم الثاني في اللّاهوت، وقد تُرجمت حرفيًّا "أخلى نفسَهُ" أو "اتَّضع طواعيةً". وكأنّي بالمسيح ربُّ المجد يتنازل بملء إرادتهِ في ميلادهِ البشريّ كي يأخذ جسدًا بشريًّا ضمن خطَّة الله للفداء.
وفيما يلي، إليكم الشواهد الكتابيَّة الدّاعمة لناسوت ولاهوت المسيح:
أولًا: المسيح كإنسانٍ كامل:
لقد اختبرَ الألم والجوع والتعب (١بطرس 23:2؛ متى 2:4؛ لوقا 23:8؛ يوحنا 28:19).
لقد مرَّ بالتّجارب كما نحن البشر.
(١كورنثوس 9:10؛ عبرانيّين 15:4)
لقد عرَّف عن نفسهِ بأنَّه ابن الإنسان.
(متى 20:8).
لقد كان بديلًا عن الإنسان في موتهِ الجسديّ (يوحنا 14:3؛ 32:12).
لقد عُرِفَ له سِلسِلة نسبٍ جسديَّة.
(متى ١؛ لوقا ١)
قورِنَ بآدم الأول (١كورنثوس 45:15، ٤۷).
لقد صعِدَ إلى السّماء بجسدهِ الممجَّد (أعمال الرسل 10:1-١١؛ أفسس 10:4)
لا يزال يُعرِّف عن ذاتهِ بكونهِ ابن الإنسان (رؤيا 13:1، ١٦).
ثانيًا: المسيح كإلهٍ كامل (أو الله بالكامل)
سُمّيَ بالابن الوحيد (يوحنا 14:1، ١٨؛ 16:3؛ ١يوحنا 9:4).
عُرِفَ بأنَّه شخصٌ أبديٌّ (ميخا 2:5؛ يوحنا 5:17، ۲٤؛ كولوسي 15:1).
أُعطيَ ميراث الله (عبرانيّين 2:1؛ 4:3 و٦).
المسيح هو الله (متى 3:4، ٦؛ لوقا 41:4)
سُمّيَ بابنِ الله (يوحنا 18:3؛ 25:5؛ 35:9؛ 4:11).
له قوَّة الحياة في شخصهِ (يوحنا 17:10-١٨؛ أعمال الرسل 32:13-٣٣؛ رومية 4:1؛ كولوسي 18:1).
لقد عمِلَ أعمال الله (يوحنا 36:10-٣٨).
هنالك إشارة في سفر العبرانيّين أيضًا إلى دور الآب السّماوي في عمليَّة تجسُّد المسيح الطوعيَّة بالقول: "لِذَلِكَ عِنْدَ دُخُولِهِ إِلَى الْعَالَمِ يَقُولُ: ذَبِيحَةً وَقُرْبَانًا لَمْ تُرِدْ، وَلَكِنْ هَيَّأْتَ لِي جَسَدًا." (عبرانيّين 5:10) ما يُشيرُ إلى وجودِ خطَّةٍ إلهيَّة مُبرمَجة لعمليَّة إخلاء المسيح لذاتهِ لكي يستطيع أن يتشارك مع الناس. "فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الْأَوْلَادُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضًا كَذَلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ." (عبرانيّين 14:2) وهذا التّغيير الجسديّ الذي اختبَره المسيح في ميلادهِ الأرضيّ كان ضروريًّا لإتمامِ المهمَّة الإلهيَّة. "مِنْ ثَمَّ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُشْبِهَ إِخْوَتَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لِكَيْ يَكُونَ رَحِيمًا، وَرَئِيسَ كَهَنَةٍ أَمِينًا فِي مَا لله حَتَّى يُكَفِّرَ خَطَايَا الشَّعْبِ." (عبرانيّين 17:2) ولكن ما يُميِّز المسيح في أنَّه إنسانٌ كاملٌ فهو كونهُ بلا خطيَّة كباقي البشر السّاقطين. "لِأَنْ لَيْسَ لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ غَيْرُ قَادِرٍ أَنْ يَرْثِيَ لِضَعَفَاتِنَا، بَلْ مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلَا خَطِيَّةٍ." (عبرانيّين 15:4) فممّا سبق، نلاحظ أنّ الإلهَ الأزليّ والخالِق الكُلّي القُدرة كان مُستعدًّا لأن يصيرَ إنسانًا كاملًا لكي يُتمِّم القصدَ الإلهيّ في الخلاص المعَدّ منذ أيام الأزل. "مَعْرُوفًا سَابِقًا قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، وَلَكِنْ قَدْ أُظْهِرَ فِي الْأَزْمِنَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ أَجْلِكُمْ." (1بطرس 20:1)؛ ثم "فَسَيَسْجُدُ لَهُ جَمِيعُ السَّاكِنِينَ عَلَى الْأَرْضِ، الَّذِينَ لَيْسَتْ أَسْمَاؤُهُمْ مَكْتُوبَةً مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ فِي سِفْرِ حَيَاةِ الْخَرُوفِ..." (رؤيا 8:13)
هذه القواعد الكتابيَّة الرّائدة أرست أُسُس طبيعة المسيح الميلاديَّة في الناسوت وفي اللّاهوت في آنٍ معًا. فبالرغم من كون الرَّبّ يسوع المسيح إنسانًا كاملًا، فهو أيضًا الله بالكامل، وقد احتفظ بهذه الطّبيعة طيلةَ مدَّة تجسُّده (يوحنا 43:5؛ 35:6-٥١؛ 28:7-٣٦؛ 23:8-٥٨؛ 5:9-٣٩؛ 7:10-٣٤؛ 25:11-۲٦)، حيث أظهر قوَّته الإلهيَّة في عجائبهِ الكثيرة (يوحنا 1:2-١١). وإذا كنّا نُدرك حقيقةَ تجسُّده، ينبغي علينا أن نعرفَ أهدافَ هذا التّجسُّد العظيم (يوحنا 1:1-٣؛ كولوسي 16:1). فما هو إذًا هدف التّجسُّد في الميلاد؟ إنّ الجواب في هذه الكلمات: "لِأَنَّهُ جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لِأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ." (۲كورنثوس 21:5) لنتذكَّر عِظَم المحبَّة الإلهيَّة هذه في خطَّة التّجسُّد الفريدة هذه "عَالِمِينَ أَنَّكُمُ افْتُدِيتُمْ لَا بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، مِنْ سِيرَتِكُمُ الْبَاطِلَةِ الَّتِي تَقَلَّدْتُمُوهَا مِنَ الْآبَاءِ، بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلَا عَيْبٍ وَلَا دَنَسٍ، دَمِ الْمَسِيحِ، مَعْرُوفًا سَابِقًا قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، وَلَكِنْ قَدْ أُظْهِرَ فِي الْأَزْمِنَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ أَجْلِكُمْ." (١بطرس 18:1-۲٠) فلنقترب إذًا بخشوعٍ وتقوى رافعين أيادي طاهرة وشاكرين الله الآب على ميلاد المسيح المعجزيّ وعملهِ الكفّاريّ على الصليب وخلاصهِ العظيم الذي لا يُثمَّن. "إِذْ سَبَقَ فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لِنَفْسِهِ، حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ، لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْنَا فِي الْمَحْبُوبِ. الَّذِي فِيهِ لَنَا الْفِدَاءُ بِدَمِهِ، غُفْرَانُ الْخَطَايَا، حَسَبَ غِنَى نِعْمَتِهِ." (أفسس 5:1-۷)