نعيش اليوم في عالم غزاه العداء وساد عليه. فأصبحت الخلافات شغل الشعوب الشاغل، وواقعًا تعيشه المجتمعات، وتعاني منه معظم العائلات.
فالسلام أمسى مجرد أنشودة يتغنّى بها الجميع. أما الوفاق فتوارى بعيدًا في عالم الأحلام. أما في هذا العالم بالذات، الذي يضجّ ويتخبّط بشتى أنواع النـزاعات، يُسمع صوت رقيق، يحمل في طيّاته موجات من الأمل، فيقدّم للعالم المظلم أشعة من النور، حاملًا إليه رسالة المصالحة.
مصالحة مع الله
صرخ أيوب في القديم صرخته الشهيرة متسائلًا: "ليس بيننا مُصالح يضع يده على كلينا". ثم ردَّدَت صدى هذه الصرخة أجيال وأجيال دونما جواب، إلى أن تمّ الزمان، حين أرسل الله ابنه ليضع يده على كلينا "ويصالح الاثنين في جسد واحد مع الله بالصليب، قاتلًا العداوة به." (أفسس 16:2)
لقد عُلّق ربنا يسوع المسيح على الصليب بين الأرض والسماء، فأتت بذلك السماء إلينا، ونحن من خلاله وصلنا إليها. إنه وحده ابن الإنسان وابن الله معًا، الذي استطاع على صليب الجلجثة، أن يمدّ ذراعيه المباركتين والطاهرتين، ليمسك بإحدى يديه يدي ويدك، أي يد الإنسان الخاطئ، وبيده الأخرى يمسك يد الآب السماوي البار، ويجمعنا "عاملًا الصلح بدم صليبه" (كولوسي 20:1)، "أي إن الله كان في المسيح مصالحًا العالم لنفسه، غير حاسب لهم خطاياهم، وواضعًا فينا كلمة المصالحة." (2كورنثوس 19:5)
هل نلت هذه المصالحة بالإيمان بما عمله المسيح على الصليب لأجلك؟ "إذًا نسعى كسفراء عن المسيح، كأن الله يعظ بنا. نطلب عن المسيح: تصالحوا مع الله. لأنه جعل الذي لم يعرف خطية، خطية لأجلنا، لنصير نحن برَّ الله فيه." (2كورنثوس 20:5-21)
هل تقوم بمهمتك كسفير للمسيح حاملًا للنفس البشرية البعيدة عن الله، ليس حقيبة دبلوماسية، إنما رسالة خلاصية، أي كلمة المصالحة؟
مصالحة مع الآخرين
عندما تتمّ المصالحة العمودية مع الله، تتبعها المصالحة الأفقية مع الآخرين. "إن كان لأحد على أحد شكوى. كما غفر لكم المسيح هكذا أنتم أيضًا." (كولوسي 13:3) إن كنت حقًا في علاقة سليمة مع الله الذي لا تراه، فيجب أن يظهر ذلك في علاقاتك مع من تراهم كل يوم. لا يجوز للقلب الذي اختبر غفران المسيح أن يضمر في خفاياه حقدًا أو مرارةً على أحد. ولا يجوز للنفس التي تبرّرت فقط بالإيمان وتمتّعت بسلامٍ مع الله، أن تكون في خصام مع أيٍّ من البشر.
لذا يقول الرسول: "كونوا لطفاء بعضكم نحو بعض، شفوقين متسامحين كما سامحكم الله أيضًا في المسيح." (أفسس 32:4) إذًا ليس للعداء مكانًا شرعيًّا في قلب المؤمن الذي اغتسل بدم المسيح وأصبح مسكنًا له. ألم يعلّمنا الرب يسوع أن نحب أعداءنا، ونحسن إلى مبغضينا ونبارك لاعنينا ونصلي لأجل الذين يسيئون إلينا؟ أليست هذه هي الطريق الإلهية التي شقها لنا المسيح بنفسه، وسار فيها مقدامًا لنا؟ فما علينا سوى اتباع خطواته، والسير في الدرب الذي أعدّه لنا. هذا الدرب هو الوحيد الذي يصل بنا إلى المصالحة مع الجميع، والى حياة السلام التي يريدنا الرب أن نحياها... وأن نروّجها كما قال لنا بفمه المبارك: "طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يُدعَون." (متى 9:5) إن كان الله، رغم شرورنا وعصياننا وتمرّدنا، قد عاملنا بالرحمة والمسامحة، كما يقول الرسول بولس: "إن كنا ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت ابنه" (رومية 10:5)، فلا عذر لنا البتة إن كنا لا نصالح الآخرين، مهما كان السبب.
إن كنت في عداء مع أي شخص كان، ولأي سبب كان، تذكّر جيدًا أن مسيحيتك، التي ترفع شعاراتها في كل مكان، وبكل فخر وامتنان، هي عبر العصور والأزمان، ديانة المصالحة.