الهندسة الجينيَّة: ديناميكيَّة الطُبّ الحديث
لقد توصَّل العلماء في أيامنا الحاضرة إلى مرحلةٍ متقدّمة في اكتشاف الجينوم البشري، أو DNA، ودوره في تحديد وظائف الجسم الخلويَّة والفيزيولوجيَّة.
حديثًا، بدأ استخدام التكنولوجيا في التلاعب بالجينوم لأغراضٍ طبّيَّة في المبدأ، إلا أنَّ أهدافها تخطَّت المألوف لتشملَ تغيير الجينات واستبدالها بأجزاء أخرى أُخِذت من الخلايا الجرثوميّة أو الحيوانيّة والنباتيّة لتركيب جينوم جديد كلّيًا لا أحد يعرف وظيفته بالتحديد.
هذه العمليات المخبريَّة المتعلّقة بالجينوم هي جزءٌ مِن الهندسة الجينيَّة أو Genetic Engineering، كما ذكرنا سابقًا.
بما أنَّ الهندسة الجينيَّة لم تُذكر بالتحديد في الكتاب المقدس، فمِن الصعوبة معرفة الحدود الممكنة للتلاعب بالجينوم، وهل هذا ينسجم مع مشيئة الله في عملية الخلق والإبداع. لقد أعطى الله الإنسان سلطانًا على خليقته (تكوين 26:1)، إنما ما هي الحدود المسموح بها بتغيير جينوم الخلايا من دون التعرُّض للصلاحيات الموكلة إلينا حصرًا في الاهتمام بخلائق الله الأخرى؟ بالإضافة إلى هذا، نرى أنَّ تغيير الجينات قد يؤدّي إلى تغيير وظائف الخلايا الحيويَّة ولا ندري أبعاد ونتائج هذه التدخلات العشوائيّة. أتذكَّر كلمات الرسول بولس: "فَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الْخَلِيقَةِ تَئِنُّ وَتَتَمَخَّضُ مَعًا إِلَى الآنَ." (رومية 22:8) مما يدلُّ على أنَّ الخليقة هي تحت سلطان الله المطلق وهي تنتظر أن تُعتَق ضمن خطّته وتوقيته ولا علاقة للإنسان بهذه التدابير. من الصعب أن نعتبر أنَّ الهندسة الجينيَّة هي خطأ وإن بقي الكتاب صامتًا في شأنها، إلا أنَّ الثابت في الأمر أنه يترتب على العبَث بالجينوم نتائج قد لا تكون في مصلحة الإنسان أن يسبُرَ غورها. "لاَ تَضِلُّوا! اَللهُ لاَ يُشْمَخُ عَلَيْهِ. فَإِنَّ الَّذِي يَزْرَعُهُ الإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضًا." (غلاطية 7:6)
أوجد الله الخليقة لخير الإنسان ولَعَلّه سلَّطه على الخلائق الأخرى لضمان قصده الساميّ. من هذا المنطلق، أرى أنَّ تغيير الخليقة من خلال الهندسة الجينيَّة لا يُخفي حقيقة أننا وكلاء على نعمة الله المتنوِّعة وسنُحاسَب على هذا الأساس. لا أشكُّ لحظة بأهمية الهندسة الجينيَّة في علاج الأمراض المستعصية، لكن ما أريد أن أشدِّد عليه أنَّ التلاعب بالجينات دونه مخاطر غير حميدة. نرى العلماء في بلدانٍ متعدّدة يخلطون الجينات البشريّة بالحيوانيّة والنباتيّة وذلك لأسبابٍ تتعلَّق بإنتاج غذائي أوفر، وبإنشاء جنس خلويّ أفضل، وهندسة أدوية علاجية لسرطان الدم والهيموفيليا، أو داء سيلان الدم الوراثي الناتج عن نقص جزئي أو كلّي لأحد عوامل تخثّر الدم. إنَّ الأهداف نبيلة، لكن تغيير الجينات أمرٌ دقيق وقد يكون له أبعاد سلبيّة لا نُدرك نتائجها.
خلقَ الله جسم الإنسان مُتكاملًا: "فَإِنَّهُ لَمْ يُبْغِضْ أَحَدٌ جَسَدَهُ قَطُّ، بَلْ يَقُوتُهُ وَيُرَبِّيهِ، كَمَا الرَّبُّ أَيْضًا لِلْكَنِيسَةِ. لأَنَّنَا أَعْضَاءُ جِسْمِهِ، مِنْ لَحْمِهِ وَمِنْ عِظَامِهِ." (أفسس 29:5-30) لذلك لا نستطيع تغييره من خلال الجينات الخلويَّة لَعَلّنا نكون بذلك قد أسأنا إلى وظائف الجسم وسبَّبنا تناقُل الأمراض الوراثية بدل إيجاد العلاجات الناجعة لها. من الطبيعيّ ألَّا ندرك تمامًا كيف نسج الله الإنسان قبل الولادة، ولا كيف تعمل وظائف الجسم بتناغم ودقَّة متناهية، فكيف بنا أن نُدرك دور الجينوم في الخلايا المايكروسكوبيّة؟ أن نُعدِّل الجينات لأسباب طبّيَّة وغذائية شيء، وأن نتلاعب بالجينوم شيءٌ آخر.
هذا يذكّرني بالتحذير الذي أطلقه النبي هوشع؛ وإن كان لا يعني الهندسة الجينيَّة مباشرة إنما يعنى بالخضوع لترتيبات الله في الخلق وعلى الإنسان أن يلتزم بالمعايير الإلهية المحدَّدة للحياة: "ازْرَعُوا لأَنْفُسِكُمْ بِالْبِرِّ. احْصُدُوا بِحَسَبِ الصَّلاَحِ. احْرُثُوا لأَنْفُسِكُمْ حَرْثًا، فَإِنَّهُ وَقْتٌ لِطَلَبِ الرَّبِّ حَتَّى يَأْتِيَ وَيُعَلِّمَكُمُ الْبِرَّ." (هوشع 12:10) إنَّ المجتمع المعاصر قد تحوَّل من مُجتمعٍ يلتزم بالمعايير الأخلاقيَّة إلى ذلك الذي يخضع للمعايير الطبّيَّة والبيولوجيَّة. كلُّ شيء تقريبًا أصبح تحت سيطرة الجينوم وهذه القوة هي المحرِّكة في شتى الميادين. حتى إرادة الإنسان الحرّة في الخلق والإبداع أصبحت تحت سيطرة الهندسة الجينيَّة. أما نحن، أي أولاد الله وأصحاب الفكر المحافظ، فنخضع للقوانين الإلهيّة الأخلاقيّة الساميّة ونُتمِّم قصد الله بخوف ورِعْدَة.