وردت قصة بارتيماوس، أو ابن تيماوس، في إنجيل مرقس 46:10-53. وفي هذه القصة تصوير حيٌّ مدهشٌ لإنسانٍ ولد كفيفًا، وعندما بلغ أشدّه أخذ يقضي معظم أوقاته على الطريق يستجدي الناس العطاء، فظروفه الصحية لم تكن توفّر له حاجاته الجسدية أو البقاء في المنزل.
فهو عاجزٌ عن العمل ومدرك تمامًا أن لا شفاء لعماه. بقي شيء وحيد يستطيع أن يقوم به هو أن يجلس على الطريق يستعطي خيرات الناس وأفضالهم. كان عليه أن يفعل ذلك كل يوم، فيطلب من معارفه أن يأخذوه إلى مقرّ جلوسه اليومي ملتجئًا إلى رحمة الناس وحنانهم.
ولا ريب أن مشاعر المذلّة والضعف والحاجة كانت تجتاحه وتخلّف آثارها المقيتة في قلبه بل في كل كيانه من جراء الفاقة المستمرّة. ولكن ذات يوم سمع من الناس عن ظهور شخصية عجيبة تصنع عجائب وتشفي المرضى بل تحيي الأموات. ولعلّه ظن في بادئ الأمر أن هذه الأخبار هي ليست سوى إشاعات كاذبة يروّجها بعض الكذّابين أو الخبثاء. غير أن هذه الأخبار ظلَّت تتسرّب إلى قلوب الناس ومسامعهم وربما نقلها إليه بعض أصدقائه أو المقرّبين. ولم يلبث أن صدّق بها وآمن بصحة العجائب وأصالتها.
وعلم ذات يوم أن صاحب هذه المعجزات سيجتاز في طرقات مدينته أريحا، وأدرك إن فاتته تلك اللحظة فهو حقًّا سيكون الخاسر. وعندما مرّ يسوع الممجّد قريبًا من مكان وجوده في جمع كبير من الناس أدرك آنئذ إن فاتته الفرصة ولم يلتقِ بصانع المعجزات فإنَّ فرصته هذه ستفوته إلى الأبد. فأخذ يصرخ بصوت جهوري: "يا يسوع ابن داود، ارحمني." فأخذ كثيرون من الناس الذين غصّت بهم الشوارع ينتهرونه أن يصمت، ولكنه أبى أن يصغي لانتهارهم، وازداد لجاجة، وعندئذ "وقف يسوع وأمر أن يُنادَى". وهنا لا بدّ لنا أن نتوقّف لحظة لنتأمل في الوضع النفسي والاجتماعي الذي كان ابن تيماوس يعاني منه، فهو:
أولاً، كان معزولاً عن الرب يسوع المسيح فبينه وبين الناس حشود متزاحمة تحول دون وصوله إليه، ولكن هذا الكفيف لم يكن لديه أية وسيلة أخرى سوى أن يرفع صوته إلى الأعالي. فهو متألم، ومحروم، ومعتصم بكفافة، ولم يكن هناك من يحمله إلى السيد ليردّ إليه بصره وينقذه من الحالة الرهيبة التي كان يعاني منها. كان كل ما لديه آنئذٍ هو صوته، فازداد صراخًا لعلّه يصل إلى مسامع السيد.
ثانيًا، لم يكن في وسعه أن ينهض أو يقبل إليه لأنه لم يكن يعرف من هو هذا صانع العجائب أو تقاطيع شكله. ولكن الصرخة الصاعدة من القلب جعلت يسوع أن يقف... وعندما وقف يسوع، وقفت الجماهير المتزاحمة وقال لهم: أدعو هذا الذي تحدّى الجماهير ولم يتوقّف لحظة واحدة عن النداء. يقول الكتاب: "فوقف يسوع وأمر أن يُنادَى." لم يسأل أولاً: من هو هذا الذي يدعوني؟ أهو من علية القوم؟ أهو من الرؤساء؟ أهو موظف في الدولة عظيم؟ في رأيي، إن الكلمة الوحيدة التي سمعها يسوع هي: "ارحمني!" وماذا قالت الجماهير؟ قالت له: "ثق، قُمْ. هوذا يناديك." وهذا كل ما كان يطلبه الكفيف البصر حينذاك! وماذا فعل الأعمى؟ "طرح رداءه وقام وجاء إلى يسوع."
لا شكّ أن بعض الناس قادوه إلى حيث كان يقف يسوع. فقد استدعاه ليلبّي له طلبه على الرغم من موقف الشعب السلبي بقولهم له: "أصمت! كفّ عن الصراخ... إنه لن يفعل لك شيئًا." ولكن الكفيف البصر هذا، تخلّى عن كل شيء، ولا سيما الرداء، وأخذوه لمقابلة السيد. لقد قال يسوع: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم." جاء المسيح ليخلّص ويمنح سلامًا ورحمة ويملأ القلوب بالمحبة.
وعندما وقف هذا الرجل الأعمى أمام الرب صانع المعجزات سأله:
- ماذا تريد أن أفعل لك؟"
أكان يسوع يعرف ما يريد هذا الأعمى؟ أكان يدرك تمامًا ما هي مطالبه الشخصية؟ لا شك أن يسوع كان يعلم بصورة يقينية ماذا يريد هذا الكفيف. لم يكن يطلب مالاً، أو جاهًا أو قصرًا، أو أي شيء من مطالب الحياة الغنيّة التي يتمنّاها الفقراء... أراد أن يبصر! لقد جاهد هذا الأعمى للحصول على الشيء الأساسي في حياته وهو البصر، ولكن بإيمانه بالمسيح قد اكتسب البصر الجسدي والبصر الروحي إذ قال له السيد الرب: "اذهب، إيمانك قد شفاك، فللوقت أبصر وتبع يسوع في الطريق."
لم يعد هذا الرجل إلى موضع الاستعطاء السابق ليستردّ رداءَه وكلَّ شيء آخر له، بل تبع المسيح الذي شفاه ووهبه نعمة البصر الجسدي.
إن نداء الإيمان هو النداء الذي يُستجاب، فالرب يسوع في موقفه هذا رأى مَعْلَم التوبة في حياة هذا الكفيف، ووجد في ندائه: "يا يسوع ابن داود، ارحمني" صورة حيّة عن التوبة الحقيقية وعن الصوت الصارخ بقوة للتحرّر من الحياة المستنقعة بـدهمة الليل الرهيب. كان يريد أن يتحرّر من آثامه، وأن ينعم بالنور الإلهي، ويشبع من الخبز الإلهي، والماء الصافي النقي الذي تحدّث عنه يسوع إلى المرأة السامرية. بل أدرك المسيح أن أغلبية الجمهور الذي كان محتشدًا حوله كان يسعى وراء مطالب جسديّة إذ ظنّ أن هذا هو المسيح الذي جاء ليعيد لإسرائيل أمجاد داود وسليمان العسكرية ويطرد أعداء البلاد من أرض إسرائيل... بل أن يحكم العالم حكمًا ماديًا ويجعل قومه هم الحكام والقادة. ولكن كما قال المسيح لبيلاطس، أن مملكته ليست من هذا العالم، هي ليست مملكة سياسية أو عسكرية، إنما هي مملكة خلاص النفوس من سلطان إبليس الرجيم الذي يطمع في هلاك البشرية التي مات المسيح من أجلها. عندما وقف ابن تيماوس أمام المسيح استنار بصره وبصيرته وإيمانه، وهذا أمرٌ يجدر أن نفعله نحن أيضًا.