Voice of Preaching the Gospel

vopg

هذا السؤال الخطير، القديم الجديد، سأله أيوب الصدّيق الصابر قبل حوالي أربعة آلاف عام من الآن قائلًا: "فكيف يتبرّر الإنسان عند الله؟ إن شاء أن يحاجّه (أي يترافع معه)، لا يجيبه عن واحدٍ من ألف." (أيوب 2:9-3)

وقد يتبادر إلى أذهان القراء أن أيوب كان يقصد بهذا الكلام أن بني البشر يترافعون مع الله في قضية خاسرة حتمًا. ولكن المتعمّق في دراسة سفر أيوب لا بدّ أن يدرك أن هذا المؤمن الذي كان حائرًا بسبب قساوة المحنة، كان يبحث حقيقة عن الجواب الشافي.
وما زال هذا السؤال يتردّد على أفواه الكثيرين، وسيبقى حتى قيام الساعة. ولقد حاول الكثيرون أن يجدوا جوابًا لأنفسهم من خلال قناعاتهم الخاصة، أو معتقداتهم الموروثة، ولكن المفهوم الأكثر تداولاً بين الشعوب على مختلف انتماءاتها، ومعتقداتهم المتعددة والمتشعّبة – ما عدا المؤمنين بفداء المسيح – كان وما زال يدور حول مبدأ الأعمال. كما نراه في مناقشات أصحاب أيوب وأهل تلك العصور القديمة. مرورًا إلى الفلاسفة، كفلسفة أفلاطون ومدينته الفاضلة وصولاً إلى عصرنا هذا ونظريات العقد الاجتماعي. وهذه كلها تبنى على ظواهر الأعمال كما يراها الناس، ولا تداري دوافع البشر وخفيات القلوب التي لا يعلم بها إلا الله وحده. وبها لا يتبرّر الإنسان لأن أموره تؤول دومًا إلى السقوط في المحظور والموبقات مما يؤدي به إلى الشك والحيرة والفشل الذريع...!
وتوجد شريحة من الناس تظن بأن إتمام الفرائض وحفظ النواميس الطقسية يكفي لكي يصبح الإنسان مقبولاً، ولكن حتى الرؤساء الدينيين في إسرائيل قديمًا لم يستطيعوا حفظ الناموس بروحانيته لذلك فقد وبّخم استفانوس شهيد المسيحية الأول بقوله لهم قبل أن يرجموه: "أَيُّ الأَنْبِيَاءِ لَمْ يَضْطَهِدْهُ آبَاؤُكُمْ؟ وَقَدْ قَتَلُوا الَّذِينَ سَبَقُوا فَأَنْبَأُوا بِمَجِيءِ الْبَارِّ، الَّذِي أَنْتُمُ الآنَ صِرْتُمْ مُسَلِّمِيهِ وَقَاتِلِيهِ، الَّذِينَ أَخَذْتُمُ النَّامُوسَ بِتَرْتِيبِ مَلاَئِكَةٍ وَلَمْ تَحْفَظُوهُ." (أعمال 52:7-53)
وقد ذهبت مجموعات أخرى إلى مبدأ التعويض عن الذنوب بالإماتة وإيلام الذات. وهذا أيضًا ثبت فشله وعدم جدواه، لأنه وقتي ولا يغيّر ما في داخل الإنسان.
وقال غيرهم بمبدأ الوراثة الجسدية، ولكن هذا المبدأ محكوم سلفًا بفساده وفشله منذ بدء الخليقة. فآدم وحواء وَلَدا قايين القاتل كما ولدا هابيل الصدّيق.
وقالت بعض المعتقدات القدَرِيّة، أي أن الإنسان قبل أن يولد مكتوب له أن يكون صالحًا أو شريرًا، وهذا المبدأ من أكثر ما يوقع بني البشر في اليأس والقنوط من رجمة الله.
واعتقد آخرون بأن إرضاء "الآلهة" يكون بزيارة الأضرحة والقبور أو السجود لقوى الطبيعة ولصور الحيوانات – وهذا أيضًأ قد عفا عليه الزمن.
يُظهر الإعلان الإلهي في الكتاب المقدس بمجمله بكل ذي عقل نيّر أن جميع هذه العقائد والممارسات تحوي في ذاتها عجزها وعدم نفعها. حيث أن الطبيعة الفاسدة في الإنسان، كوارث لخطية العصيان تجعله محكومًا بالموت الأبدي كما يقول الرسول بولس:
"مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ، وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ، وَهكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ." (رومية 12:5) وقد قال إشعياء النبي "وقد صرنا كلنا كنجس، وكثوب عدّة كل أعمال برّنا، وقد ذبلنا كورقة، وآثامنا كريح تحملنا." (إشعياء 6:64)
فأيوب الذي شهد الله له بأنه "بار ومستقيم يتّقي الله ويحيد عن الشر" لم يكن برّه ذاك قانونيًا بل كان برًّا سلوكيًا غير كافٍ لنوال الخلاص كما عرف هو نفسه. فبالعودة إلى آية الموضوع في مطلع المقال يذكر: "إن شاء أن يحاجّه لا يجيبه عن واحد من ألف." أي إن الإنسان لا يستطيع تبرير نفسه لدى الله. وكان أب نفسه بحاجة إلى ترفيع وتصعيد إيمانه ليبلغ إلى درجة الاعتراف بالعجز الذاتي والاستناد إلى برّ الفداء الإلهي!
وبالرغم من أن أيوب كان يقدّم الذبائح التي كانت منذ أيام آدم وحتى نهاية عهد الناموس ترمز إلى ذبيحة المسيح المعدّة في المشورات الأزلية لأجل الخلاص، فإنه لم يكن مدركًا تمامًا لسرّ الفداء، وكان يبحث عنه.
وبعد أن أجاب أيوب أصحابه مشيدًا ببره الذاتي وأعماله الخيِّرة أقام الرب أليهو بن برخئيل البوزي لكي يوجّه نظره إلى البرّ الحقيقي المقبول لدى الله. وفي مطلع خطابه المطول الذي بدأه بلَوم أيوب قائلاً: "قلتَ: أنا بريء بلا ذنب. زكيٌّ أنا ولا إثم لي." (أيوب 33:9) ثم وجّهه لكي يطلب برَّ [الوسيط الوحيد] قائلاً: "إِنْ وُجِدَ عِنْدَهُ مُرْسَلٌ، وَسِيطٌ وَاحِدٌ مِنْ أَلْفٍ لِيُعْلِنَ لِلإِنْسَانِ اسْتِقَامَتَهُ، يَتَرَاءَفُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ: أُطْلِقُهُ عَنِ الْهُبُوطِ إِلَى الْحُفْرَةِ، قَدْ وَجَدْتُ فِدْيَةً." (أيوب 23:33-24) وهذا بالضبط ما كان أيوب يبحث عنه طيلة مدة محنته، ولم يبلغ إلى إدراكه بشكل واضح! فقد كان الفداء في الأزمنة القديمة سرًّا ولكنه تحقّق بكل جلاء ووضوح في موت المسيح الكفاري على الصليب.
ونستعرض بعض أقوال أيوب لنرى كيف كان يبحث عن هذا السرّ تدريجيًّا:
1- "لأَنِّي وَإِنْ تَبَرَّرْتُ لاَ أُجَاوِبُ، بَلْ أَسْتَرْحِمُ دَيَّانِي." (15:9) أي، إنه كان رغم برّه السلوكي بحاجة إلى رحمة الله وعفوه.
2- "لأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ إِنْسَانًا مِثْلِي فَأُجَاوِبَهُ، فَنَأْتِي جَمِيعًا إِلَى الْمُحَاكَمَةِ. لَيْسَ بَيْنَنَا مُصَالِحٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى كِلَيْنَا." (32:9-33) أي، أنه كان يبحث عن المُصالِح الذي يستطيع أن يضع يده على الله وعلى الإنسان في وقت واحد.
3- "إِنْ مَاتَ رَجُلٌ أَفَيَحْيَا؟ كُلَّ أَيَّامِ جِهَادِي أَصْبِرُ إِلَى أَنْ يَأْتِيَ بَدَلِي." (14:14) فقد كان ينتظر ذلك البديل الذي يأخذ عنه وزره.
4- "كُنْ ضَامِنِي عِنْدَ نَفْسِكَ. مَنْ هُوَ الَّذِي يُصَفِّقُ يَدِي؟" (3:17) أي كن أنت ضامني تجاه نفسك. وكان الكفيل يصفّق يد المدين ويد الدائن إيذانًا بضمانه للوفاء بالدين.
5- "أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ وَلِيِّي حَيٌّ، وَالآخِرَ عَلَى الأَرْضِ يَقُومُ، وَبَعْدَ أَنْ يُفْنَى جِلْدِي هذَا، وَبِدُونِ جَسَدِي أَرَى اللهَ. الَّذِي أَرَاهُ أَنَا لِنَفْسِي، وَعَيْنَايَ تَنْظُرَانِ وَلَيْسَ آخَرُ. إِلَى ذلِكَ تَتُوقُ كُلْيَتَايَ فِي جَوْفِي." (25:19-27) ألا يُعتبر قوله "والآخر على الأرضِ يقوم" نبوّة عن التجسّد الإلهي؟
6- "مَنْ يُعْطِينِي أَنْ أَجِدَهُ، فَآتِيَ إِلَى كُرْسِيِّهِ، أُحْسِنُ الدَّعْوَى أَمَامَهُ، وَأَمْلأُ فَمِي حُجَجًا، فَأَعْرِفُ الأَقْوَالَ الَّتِي بِهَا يُجِيبُنِي، وَأَفْهَمُ مَا يَقُولُهُ لِي؟ أَبِكَثْرَةِ قُوَّةٍ يُخَاصِمُنِي؟ كَلَّا! وَلكِنَّهُ كَانَ يَنْتَبِهُ إِلَيَّ. هُنَالِكَ كَانَ يُحَاجُّهُ الْمُسْتَقِيمُ، وَكُنْتُ أَنْجُو إِلَى الأَبَدِ مِنْ قَاضِيَّ." (3:23-7)
هنا يصرّح أيوب بأن الله لم يكن يستعرض قدرته ضدّه ولكنه كان "ينتبه إليه" أي يعالج ضعفًا في حياته. ولكنه كان يثق بأن الذي يحاجّ الله نيابة عنه هو "المستقيم"، أي البار الوحيد الذي يحامي عنه تجاه عدالة القاضي السماوي.
ورغم كل تلك الأشواق والإعلانات غير المكتملة تمامًا أمام عينيه فقد ظل يشيد ببره الذاتي وسلوكه الجيّد إلى أن اقتنع تمامًا بفساد مسعاه ذاك، فقال:
7- "بِسَمْعِ الأُذُنِ قَدْ سَمِعْتُ عَنْكَ، وَالآنَ رَأَتْكَ عَيْنِي. لِذلِكَ أَرْفُضُ وَأَنْدَمُ فِي التُّرَابِ وَالرَّمَادِ." (5:42-6) وهنا أدرك ما يجب عليه فعله، فقدّم لله توبته عن التمسّك ببرّه الذاتي الذي لا يرضي الله.
ربما يجد كثيرون في سفر أيوب، قصة تجربة قاسية لشخص تقي نتيجة هجمة شيطانية. ولكنه حَظِيَ بنهاية سعيدة من الله... ولكن الهدف من قراءة هذا السفر يبقى بعيدًا جدًّا عن هذه الخلاصة، فلا يدركه إلا المتعمّق في معانيه، والمدقّق في تجلّياته، حيث أنه سيستخلص منها إعلانات كاملة عن قوّة عمل الفداء العظيم لخلاص النفس البشرية وإرضاء الله العليّ. والمسيح يسوع هو الذي نزل من السماء وتجسّد لكي يتمّم عمل الفداء بموته على الصليب. "وليس بأحد غيره (غير المسيح يسوع) الخلاص. لأن ليس اسم آخر تحت السماء، قد أُعطي بين الناس، به ينبغي أن نخلص." (أعمال 12:4)

المجموعة: أيلول (سبتمبر) 2020

logo

دورة مجانية للدروس بالمراسلة

فرصة نادرة تمكنك من دراسة حياة السيد المسيح، ودراسة حياة ورسائل بولس الرسول. عندما تنتهي من هاتين الدراستين تكون قد أكملت دراسة معظم أسفار العهد الجديد. تتألف كل سلسلة من ثلاثين درسًا. تُمنح في نهاية كل منها شهادة خاصة. للمباشرة بالدراسة، أضغط على خانة الاشتراك واملأ البيانات. 

صوت الكرازة بالإنجيل

Voice of Preaching the Gospel
PO Box 15013
Colorado Springs, CO 80935
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Fax & Tel: (719) 574-6075

عدد الزوار حاليا

234 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

إحصاءات

عدد الزيارات
11576921