نقرأ من الإنجيل بحسب البشير لوقا، يقول الوحي المقدس: "وكان في تلكَ الكورة رعاةٌ متبدّين يحرسونَ حراساتِ اللَّيل على رعيَّتِهم،
وإذا ملاكُ الرَّبِّ وقفَ بهِم، ومجدُ الربِّ أضاءَ حولَهم، فخافوا خوفًا عظيمًا. فقال لهمُ الملاك: [لا تخافوا! فها أنا أبشِّركم بفرحٍ عظيم يكونُ لجميع الشعب: أنَّهُ وُلِدَ لكمُ اليوم في مدينةِ داود مخلِّصٌ هو المسيحُ الرب. وهذه لكمُ العلامة: تجِدون طفلًا مقمَّطًا مُضجعًا في مذود.] وظهرَ بغتةً مع الملاك جمهورٌ من الجُند السماوي مسبِّحينَ الله وقائلين: [المجدُ لله في الأعالي، وعلى الأرضِ السَّلام، وبالنّاسِ المسرَّة.]"
ولمَّا مضتْ عنهمُ الملائكة إلى السماء، قال الرجالُ الرُّعاة بعضُهم لبعض: [لِنذهبِ الآنَ إلى بيتِ لحمٍ وننظرْ هذا الأمرَ الواقعَ الذي أعلَمَنا به الرب.] فجاءوا مُسرعين، ووجَدوا مريمَ ويوسُفَ والطفلَ مُضجعًا في المِذود. فلمَّا رأوهُ أخبروا بالكلامِ الذي قيلَ لهم عن هذا الصَّبي. وكلُّ الذينَ سمِعوا تعجَّبوا ممَّا قيلَ لهم من الرعاة. وأمَّا مريمُ فكانتْ تحفظُ جميعَ هذا الكلامِ متفكِّرةً به في قلبِها. ثم رجعَ الرعاةُ وهم يمجِّدون الله ويسبِّحونه على كلِّ ما سمعوهُ ورأَوهُ كما قيلَ لهم." (لوقا 8:2-20)
في ذكرى هذا العيد لا بدَّ أن نسترجعَ هذه الترنيمةَ الحلوة التي يعيدُها الربُّ على مسامعنا: لماذا جئتَ يا ربّي وذُقتَ هذا العذاب
أكلُّ هذا لأجلي، ماذا وأينَ الجواب؟
ولا نقدر أن نحتفلَ دون أن نتساءل حقًا: لماذا جئتَ يا ربي؟ وهل نحن نحقِّق غايةَ المسيح من مجيئه لأجلنا؟ ميلاده وموته على الصليب لأجلك ولأجلي؟ شاركتُ هذه التساؤلات لتوِّي اليوم مع شلّة من الشباب وقلتُ لهم بأنَّ مجموعة حرَسِ الحدود في بريطانيا العظمى كتبتْ تحذيرًا مفادُه أن يحذَر جميعُ الناس هدايا عيد الميلاد المزيَّفة. فلقد دخلتْ خِلْسةً إلى السوق البريطانية هدايا للعيد وفيها أشياء ثمينة مكتوبٌ عليها بأنَّها صُنعتْ في أفضل المصانع المعروفة، لكنَّها في الواقع ليست حقيقية. وأخافُ علينا نحن، بأن نحتفلَ بعيد ميلادٍ مزيّف يقدِّمه العالم لنا. لكن إذا أردنا أن نختبر فرح هذا العيد لنسأل من جديد:
لماذا أتى الربُّ يسوع؟
هناك ثلاثة معانٍ أساسية لمجيئه الأول:
أولًا، ليخلّصَ ويرفعَ الإنسان
لماذا أتيتَ وجئت؟ فيجيب المسيح نفسُه ويقول: "لأنَّ ابن الإنسان قد جاء لكي يطلبَ ويخلِّصَ ما قد هلَك." (لوقا 10:19) فإذا أردت أن تعرف لماذا جاء المسيح يجب أن تأخذَ الجواب منه هو: أتى ليخلّص ما قد هلك. أتى لأنَّ حالة الإنسان هي في الهاوية، في الحضيض الروحي. وأنا وأنتَ مصابان بمرض خطير وفي وسط النار، ومصيرُنا هو انفصال أبدي عن الله. حالتنا موت وستقودنا إلى الموت الأبدي، لذا أتى ليخلِّص ويرفعَ الإنسان. ومنذُ سقوطِ الإنسان تحوَّل الإنسان إلى تلك الصورة القبيحة جدًا، إلى حيوانٍ مفترس كما في شريعة الغاب. أسألكم بكلِّ صدق: هل رأيتم حيوانًا على هذه الأرض أكثرَ افتراسًا من الإنسان؟ قِسْ وبطريقة علمية قدرته التدميرية. فكلَّما ازداد علمُه ومعرفتُه في التكنولوجيا ازدادت شراستُه في القتل وفي أسلحة الدمار الشامل. مَن اخترعَها؟ هل الحيواناتُ المفترسة؟ لا، الإنسان طبعًا. ورغمَ كلِّ ادِّعاءاته للحضارة تحوّل إلى مفترسٍ بسبب قدرته على التدمير. وفي لحظات يقدرُ أن يَفنيَ الآلاف من الناس. إذ وبثوانٍ قليلة قُتِلَ حوالي مئة ألفِ شخصٍ بسبب قنبلةِ هيروشيما، بالإضافة إلى مئات الألوف أيضًا من الذين قضَوا من جرّاء تأثير تلك القنبلة المدمّرة. وكلّ ذلك بسبب شراسته. ثمَّ ماذا عن نجاسته؟ هل تلاحظ الحيوانات المندفعة بالغرائز؟ هل هناك يا ترُى علاقةٌ مثْليةٌ بينها؟ أفيدوني، هل يَميلُ الذّكرُ إلى الذّكر والأنثى إلى الأنثى؟ وهنا نرى الإنسان يتفاخرُ بها. فتحوَّل الإنسان من تلك الصورة عينها. حتى ومهما ظهرَ بلباسٍ أنيق أو تعلّم وحصل على أعلى الشهادات، فإنَّك ترى الفسادُ يستشري. إقرأ الأخبارَ العالمية من المشرق في هونغ كونغ، إلى الغرب وأميركا اللاتينية، ومظاهرات الناس هنا، وصرخة العالم ضد الفساد المستفحل، وهذا ما يقودنا إلى الحزن والخراب. انظر إلى بلادنا لبنان والعراق وغيرها. يقولون: الفساد هو في السلطة، والسلطة المطلقة هي فسادٌ مطلق. لكن، لماذا حين يتسلَّمُ الإنسان السلطة المطلقة يصبحُ فاسدًا؟ ولماذا هناك استياءٌ في استخدام السلطة؟ لأن مصدر الفساد هو في القلب. "القلبُ أخدعُ من كل شيء وهو نجيسٌ، مَن يعرفُه؟" (إرميا 9:17) وقلبُ الإصلاح هو إصلاحُ القلب. وروحُ التغيير هو تغييرُ الروح. لهذا أتى المسيح لكي يخلّصَنا برحمته ليس من العقاب الأبدي فحسبْ، بل لكي يغيِّرنا إلى تلك الصورة عينِها، صورة الخالق المحبّ في المسيح. لأنَّ الإنسان في سقوط آدم قد تحوَّل من صورة إنسان بحسب صورة الله في النعمة والقداسة والمحبة وصارَ أبشعَ من حيوانٍ مفترس. وأتى الرب، ووُلد هناك في المذود بين الحيوانات حتى يغيّر الإنسان ويعيدَه إلى تلك الصورة العظيمة. وُلد ابنُ الله في عائلة الإنسان وفي صورة إنسان لكي نولدَ نحن ثانيةً في عائلة الله على صورة الله ولكي نصبحَ نحن من أولادِ الله. نزل إلينا لكي يرفعَنا. لم يكن له مكانٌ في أرضنا، حتى يصيرَ لنا مكانٌ في سماه. جاع لكي نشبعَ، وعطِش لكي نرتوي، وتألَّم وجُرح وصُلب وماتَ وقام لكي نحيا نحنُ حياةً أبدية وحياة أفضل. لأنَّ ابنَ الإنسان قد جاء لكي يطلبَ ويخلِّص ما قد هلَك وليردَّ قيمةَ الإنسان. يقول في سفر العبرانيين 6:2-7 "ما هو الإنسان حتى تذكُرَه؟ أو ابنُ الإنسان حتى تفتقدَه؟ وضعتَه قليلًا عن الملائكة. بمجدٍ وكرامةٍ كلَّلتَه، وأقمتَه على أعمال يديك." فالربُّ يريد أن يردَّ لك كرامتَك، لتعيشَ حياةً كريمة، لأجل هذا جاء ابنُ الإنسان لكي يطلبَ ويخلّص ما قد هلك.
البقية في العدد القادم