لماذا وُلدَ المسيح منذ أكثر من ألفيّ سنة؟ وما هو الغرض من مجيئه إلى هذا العالم؟ هل كان في وسعه أن يخلّص العالم من غير أن يموت على الصليب ويدفع ثمن خطايانا؟
ألم تكن هناك طريقة أخرى يستطيع الله أن يستخدمها لينقذ البشرية من غضبه ونقمته؟ لماذا اختار الآب السماوي هذا السبيل الوعْر، والأسلوب المفعم باضطرابات الحياة، وشرورها لينقذ الإنسان من الهلاك الأبدي؟
ألم يكن في وسعه أن يستخدم طريقة أخرى يرفع فيها غضبه عن البشرية ويفتدي الإنسان من غير سفك دم المسيح على الصليب، ودفع الثمن الغالي الذي راح ضحيته ابنه وحيده، فيرتفع القصاص الرهيب عن كل من يقبل هذا الفداء، ويرجع إلى ربّه طالبًا غفرانه، ومستجديًا رحمته؟ أليس الله هو خالق السماوات والأرض ويستطيع أن يفعل كل شيء بفضل قدرته ولاهوته وعظمته؟
في وسعنا أن نطرح أسئلة أخرى لاستجلاء موقف الله من الإنسان، والخطة التي رسمها من أجل تشريع أبواب السماء أمام التائبين الراجعين إليه، يناشدونه الغفران والصفح والتوبة. ولكن لله مواقف هي جزء لا يتجزّأ من ذاته ويتعذّر أن يبدّلها لأن الله بصفته خالق السماوات والأرض لا يبدّل من جوهره، فهو لم يخلق الإنسان لكي يتمرّد عليه ويَعصى أوامره، ولكنه خلقه لكي يتمتّع بصحبته، ويُنعِمَ عليه بفائق محبّته، ولكي يجسّد ابن الإنسان روعة محبة الله ورحمته وحنانه ولطفه. غير أن الإنسان سقط في خطيئة العصيان، وارتكب المعصية التي حذّره الله منها، على الرغم من إنذاراته وتحذيراته. وهكذا وقعت الفجوة بين الخالق والمخلوق، وطرد كلٌّ من آدم وحوّاء من الفردوس الذي أعدَّه الله لهما. كان السقوط أمْرًا رهيبًا ومعناه الموت الأبدي، بل الهلاك الأبدي. وشاءت مشيئة الله أن يطردَ هذان المخلوقان من هذه الجنة ويصبحا من أبناء الغضب المسحوقين.
ولكن الله بعلمه المفرط، ومحبته الفائقة ورحمته المتفوّقة، أشفق على الإنسان، ولم يتركه لقدَره، فاختط له خطة خلاص، وترك له حرية الاختيار لاختيار مصيره الأبدي:
أولاً، قضى الله على الإنسان أن يموت
فموضوع الموت هذا قبل السقوط لم يكن واردًا قط، ولكنه أصبح نتيجة حتمية لفعل السقوط الرهيب. وكان مصير البشرية أن تقاسي من القضاء الإلهي من جراء تصرفها، وعصيانها النهي الربّاني. لقد سقط كل من آدم وحواء في بئر الخطية، وحُكم عليهما بالموت الجسدي لأن "أجرة الخطيئة هي موت". ولكن الله، في الوقت نفسه أتاح لهما فرصة التوبة، بل أتاحها لكل الجنس البشري ووعد الإنسان بالخلاص إن ارتدّ عن طريقه وعاش للرب. أجل، كان لا بُدّ للإنسان أن يموت، ولكن الإنسان المؤمن أُتيحت له فرصة النجاة من الهلاك الأبدي.
ثانيًا، هذه الفرصة الرائعة والأبدية لم تكن متوافرة لإبليس الذي طُرد من الحضرة الإلهية وعاش بالخطيّة، وهو ذاته كان قد اجترح عملية سقوط آدم وحواء وطغاهما على ارتكاب المعصية، لهذا لم يحظَ بمثل هذا النصيب الإلهي من الرحمة والتوبة والخلاص. كان موقف إبليس من المسيح هو موقف عدائي خادع يستهدف القضاء على خطة الله المخلِّصة التي ارْتُسمت في الأبدية لخلاص الإنسان الساقط. فالإنسان خُلق من ترابٍ وكان ضعيفًا. ولكن الشيطان كان ملاكًا، ذا مكانة رفيعة، ولم يكن هناك ما يغريه على التمرّد على ربه. ولكن نزعة الكبرياء امتلكته، واستولت على شغاف قلبه، وأراد أن يحلَّ محلَّ الله، فطرده الرب الإله من جنانه، وأعدّه لدينونة تقضي عليه لأن خطيئته لا تُغتفر.
ثالثًا، اكتشف الشيطان ضعفات الإنسان، وعزم أن يخضع البشر لإرادته فنزع نحو الخداع، والمكر، والكذب، واستطاع أن يستولي على مشاعر قلوب البشرية فأخضع أولئك الذين تملّقهم، واستأثر باهتمامهم، فأصبحوا أعوانًا له، يحاربون المؤمنين، ويضطهدون الأتقياء ويحاولون أن يحطّموا الكيان الإلهي في أبناء الملكوت ليكونوا عبيدًا لإبليس وأشياعه. ولكن أبطال الإيمان رأوا في الموت الجسدي خاتمة حيّة رفيعة، تسمو بهم إلى أبدية ملكوت المسيح حيث يكونون بقربه، ويعيشون ورَعَه ويتمتّعون بأمجاده على خلاف ما سيصيب غير المؤمنين وأبالسة الجحيم من وبالٍ وعذاب، وقضاء رهيب.
هذه النتائج، على الرغم من رهبتها كانت جزءًا لا يتجزّأ من خطة الله لعقاب إبليس وأجناده الروحية والبشرية. وكان لهذا لا بُدّ من مولد المسيح، الأقنوم الثاني، وحمله رسالة الخلاص، بل موته على الصليب لكي يشرّع أبواب السماء لجميع الذين آمنوا به وخلصوا. فمولد المسيح لم يكن مولدًا عاديًّا، ومجيئه إلى الأرض لم يكن مجيئًا كظهور أي نبيّ أو مبشّر، بل كان مجيئه في ولادته، وبشارته، وعجائبه، ورحمته، ومحبته أروع صورة أجْلَتْ موقف الله من الإنسان ككُلٍّ لكي يرتدّوا إليه، ويُقبلوا إلى مقدسه، ويروا مجدَه وبهاءَه وعظمتَه، وفي النهاية خلاصه. لقد تجسّد آخذًا صورة عبد، صائرًا في شبه الناس، لكي يوفّر الخلاص لأبناء البشرية التائبين عن آثامهم وذنوبهم، ويعرفوا بحقٍّ عظمَ محبة الله وطول أناته وفداءه. فقد كان مجيئه عربون رحمةٍ ومحبّةٍ تحمّل فيهما خلاص البشرية ودفع الثمن عنّا، فداء لأنفسنا لأن الله الآب قد أحبّ الإنسان التائب، وهيّأ له مكانة خاصة يتمجّد فيها ويرفع من مقامه. لقد دفع الله ثمنًا باهظًا في ميلاد المسيح، وفدائه، وهيّأ للإنسان حياة مقدسة تفيض بالبركات والحنان والمحبة والخلود الأبدي.
نعم، جاء المسيح وتجسّد من أجل فداء هذا المخلوق البشري الذي سقط، ووهبه حياة أبدية يتمتّع بها في أمجاد المسيح وعظمته في يوم الغلبة المقدس وإلى أبد الآبدين.