Voice of Preaching the Gospel

vopg

"آهٍ من حبِّكَ الذي لم يشأْ أن يفْلُتَني، أضعُ نفسيَ المتعبة بين يديكَ... مدينٌ لكَ أنا بها، لذا أهِبُك إيّاها من جديد...

عساها تنعمُ في عمقِ محيطِكَ الوافر... فتفيضُ عندها حياتي لتصبحَ أكثرَ غنىً لديك." – القس جورج ماثيسون (دكتور في اللاهوت)
ما أن قرأت كلمات هذه الترنيمة بالإنكليزية “O love that wilt never let me go” حتى أحسست بمشاعرَ قوية ملأتْ كياني كلَّه، وأثارتْ في وجداني فيضًا من الأشواق لإعادة قراءتها.
وهكذا ظَلَلْتُ أردِّدها مراتٍ ومرات وأنا أتأمّل بكل كلمة دوَّنها هذا الكاتب. لقد لمستُ فيها نفحةً قويةً من التعابير التي تنِمُّ عن معاناةٍ حقيقية واختبارٍ عميق اجتازَ به هذا الكاتب الإنكليزي من اسكتلندا. وحين حاولْتُ معرفةَ المزيد عن الظروف التي كتبَها فيها وبحثتُ بعمقٍ أكثر، تبيَّن ليَ السبب بكل وضوح. نعم، لقد عانَى جورج ماثيسون وهو بعدُ في السابعةَ عشرة من عمره من ضعفٍ تدريجيٍّ في البصر، وما لبث أن تحوّل وبظرف ثلاث سنوات إلى إنسان أعمى بالكلّيَّة. وما زادَ الطينَ بلّةً هو أنه حين واجه خطيبته التي أحبّ وتعاهد معها على الزواج قبل أيام من زواجهما، بالحقيقة المُرَّة تخلّتُ عنه للحال ولسانُ حالها: كلّا، أنا غير مستعدّة أن أعيشَ مع زوجٍ أعمى طيلةَ حياتي. وهكذا تركته فأضحى من بعدِها كسيرَ الخاطر، ومحطَّمَ القلب، وجريحَ المشاعر.
وبعد مرورِ عشرين سنةً أخرى، وفي ليلةِ زواج أخته الوحيدة التي كرَّست حياتها لمساعدته في دراساته اللَّاهوتية وكتاباته العديدة، عاد ليستذكِرَ تلك المحنةَ القاسية التي مرَّ بها آنذاك. وللحال فاضتْ نفسُه بكلمات هذه الترنيمة المعبِّرة مقارِنًا بها الحبَّ الحقيقي الذي لم يشأْ أن يَفلُتَه من يده الحنونة، حبَّ الله السَّني، وذلك في صيف العام 1882. ولأوَّل مرةٍ في حياته دوَّن قلمُه السيّال في الكتابة أصلًا، وخلالَ خمس دقائق فقط، كلمات هذه الترنيمة على صفحة دفتره وضمَّها فيما بعد إلى ترانيمَ أخرى سبق وكتبهَا في سجلَّاته. وحين سئِل عنها قال: "هذه هي الترنيمةُ الوحيدة التي كتبْتُها في خمس دقائق دونَ أن أُجري عليها أيَّ تعديل أو تنقيح. وكانت بمثابةِ قطَراتِ ندىً ربيعيَّةٍ من الأعالي." أما الملحِّنُ لهذه الترنيمة فهو ألبرت پيس Albert Peace لاعبُ الأورغن الاسكتلندي الشهير، الذي شهِد هو الآخَرُ بأنَّه حالَما قرأ كلمات الترنيمة حتى استطاع هو أيضًا أن يكتبَ اللحن بإبداع كبير. وقال يومذاك: "لقد انتهيتُ أنا من كتابة النوتة الأخيرة للترنيمة بسرعةٍ قصوى أيضًا حتى وقبلَ أن يجِفَّ حِبْرُ النوتةِ الموسيقيةِ الأولى."
بالحق، لقد فاض قلبُ كِلَيْهما معًا، الكاتب والملحّن، حتى أتتِ الموسيقى مطابقة ومنسجمة مع الكلمات. فهل هذه صُدفة يا ترى؟ كلَّا، بل حين يعبِّر اللسان عن معاناة القلب المجروح ويشهدُ عن حبِّ الله السَّني العجيب الذي لا يشاء أن يتخلَّى عن الإنسان، فإنَّه لا بدَّ أن يكونَ عملًا مبدِعًا وخلَّاقًا ويمُسَّ أحاسيسَ كلِّ قارئٍ وكذا مشاعرَه وفكرَه.
وحينَ دفُنَ جورج ماثيسون George Matheson الواعظُ الشهير في 28 آب/أغسطس، من العام 1906، أحاطَ محبّوه وتلاميذُه قبرَه بالورود الحمراءِ من كل جانب، لتكونَ ذكرى حبِّه الذي فقدَهُ وهو في ريعان الصِّبا، ولكنَّه عادَ فوجَده في شخصِ مَنْ أحبَّهُ إلى المنتهى ولم يدَعْهُ يَفلُت من دائرة حبِّه الأبدي العجيب. والآن هاكَ ما دوّنه كتابُ الترنيم من شعرٍ متوازن حين تُرجمَ إلى العربية، وإن تكُ ترجمتُها قد حدثتْ بتصرُّف بحسب اعتقادي أنا.

1. يا أيُّها الحبُّ السَّني، تشتاقُ نفسي لحِماكَ
آتِي بها لِتقتني، رداءَ برٍّ مِن فِداكَ
فهيَ به تَغنى

2. يا أيُّها النورُ المجيدُ، يا مُرشدي طولَ المدى
أَضئْ بقلبي فَيزيدَ، نورًا ويزهو أبدًا
بساطعٍ أسنَى

3. يا أيُّها الصليبُ كَم، رفعْتَ رأسي عاليًا
ففيكَ قدّسْتُ الألَم، ودُسْتُ مجدًا باليًا
في العالمِ الأدْنى

أما أنا يا إخوتي، فأستطيع أن أُضيفَ على شهادة جورج ماثيسون لأقول: بالحق إنَّه الحبُ الإلهي السنيُّ الذي لم يدَعْني أَفلُتُ منه. إذ التقاني منذُ نعومةِ أظفاري وأنا بعدُ في المدرسة الإنجيلية الخاصة للبنات في دمشق. أجل، فهناكَ قرأتُ عنه وحفِظْتُ وعودَه عن ظهرِ قلب من خلالِ كتيِّبٍ صغير بُنّي اللون اسمُه: مئة آية وآية. وتعلّمتُ عنه في كلِّ يومٍ صباحًا، كما وأجبتُ عن كل سؤال قُدّم في الامتحان من الصفّ الأول حتى الصف التاسع. وأسمعنا معلماتنا القصصَ المتعلِّقة به وبشخصيتِه وهويّتِه. كما واشتركتُ كذلك مع أترابي في صفوف مدارس الأحد في الترنيم والغناء والتصفيق والهتاف معبّرين بذلك عن فرحنا وسعادتنا لمعرفتنا بهذا الحب الذي لا ينضَبُ في كل أسبوع في الكنيسة.
وكان ذلك هو الأساس الذي بنيتُ عليه فيما بعد، ثقتي به وبشخصه الفريد. ولكن أتى هناك يومٌ حين أدركتُ عُمق حبِّه السَّني، الذي لم يدَعْني أفلُتُ من رُبُطِه. وكذا رأيتُ في كلماته شعاعَ نوره المجيد الذي سرتُ بضيائه وإرشاده على مرِّ السنين والأعوام التي تلَتْ. فلمستُ حبّه من خلال حنانه ورأفته عليَّ ورقّةِ قلبه في ظروفيَ المنوعة، إذ إنَّه لم يتركْني قطُّ. بل أحاطَني برعايته تمامًا كما يرعى الراعي الخراف، وإحسانِه المتدفِّق مدى أياميَ السّالفة وحتى الآن. وأما اليوم، فإنَّني أغوصُ أكثر مما سبق في بحر معرفته العميق، وأستمدُّ من كنوزه كلَّ جديد عن صفاته السامية وسلطانه الكلّي، وقدرته السرمدية. أفعل ذلك كلَّ أسبوع مع شُلَّةٍ لي من الصديقات في دراسةٍ منتظمة للكتاب المقدس تحت اسم: Bible Study Fellowship إذ نلتقي مع سيّدات من حول العالم على الزوم Zoom. وهكذا نكتشف معًا المزيدَ عن حبِّه السامي الرفيع وصفاته الجليلة فتنتعش نفسي وتهدأُ روحي. فأراه عبر الكتاب يتحنّنُ ويشفق على الجموع منذ مجيئه إلى عالم الإنسان وتجواله بين الناس. فيرفع يده الحانية ليلمسَ بها جسدًا معطوبًا، ويشفي عن طريقها قلبًا مكسورًا، ويقيم بواسطتها ابنةً ميتة باعثًا فيها الحياةَ من جديد. أراه وهو يأتي ماشيًا على الماء بينما كانَ التلاميذُ معذَّبين في الأمواج. فيُطمئنهُم بقوله لهم: "أنا هو. لا تخافوا!" أراه يشفقُ ويترأَّف حين يرى الجموعَ التي سمعته لأيّام دون طعام، فيطلب من تلاميذه القليلَ الذي لديهم ليرفعَ عينيه نحو السماء ويباركَهُ فيزداد على الفور ويصبح كثيرًا جدًا، وهكذا يسدُّ رمقَ الجائعين، ويطلب من تابعيه أن يرفعوا ما تبقّى من كِسَر فائضة لتملأ قِففًا وسِلالًا كثيرة. ثمَّ أراه بكلمة وبكل سلطان يطرد الأرواحَ الشريرة التي طالما كبَّلتْ أجسادَ العديدين وعذَّبت أرواحهم. بل وأراه أيضًا يبكي عند قبر لعازر متأثرًا من جرّاء فقدان صديقه الغالي والوفي. لكنَّه لم يتركْه في القبر بل أقامه من الموت بعد أن كان له أربعة أيام فيه. والآن أيضًا نراه يتألَّم لألمِنا، ويشعر معنا في فراقِ أحبابنا وأصدقائنا وأقربائنا خاصةً في هذا الظرف العصيب الذي يجتاز فيه العالم بأسره، واستفحال مرض الكورونا الذي لم يخلُ بيتٌ من نتائجه. لكنَّه وسْطَ كلِّ ذلك لا يزال يشدُّنا إليه برُبُط المحبة الشديدة ويقول لنا: "تشجّعوا. أنا هو لا تخافوا!"
ثم، ماذا نقول إزاء هذا الحبِّ السَّني الباهر، الذي لم يدعْنا وشأنَنا لنموتَ بخطايانا وآثامنا، لكنَّه تركَ مركزه السامي في السماء وتنازل إلينا بهيئة بشَر لكي ينقذَنا ويخلِّصَنا ويمدَّ لنا يدَ الحنان والرحمة والإحسان لكلِّ إنسان في هذا الوجود بغضّ النظر عن خلفيته وانتمائه. لماذا؟ أليس لأنَّنا جميعنا أخطأنا؟ ألا يقول الكتاب: "إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجدُ الله." (رومية 23:3) فهل عرفت صديقي مَن هو الذي جسَّد هذا الحبَّ السَّني العجيب؟ هو الوحيد الفريد الربُّ يسوع المسيح الذي بذل نفسَه عن البشر أجمعين لكي يمنحنا حياة جديدة في ملكوته إنْ كنَّا نثق بمحبته ونؤمن بفدائه. هذا الذي هتف عنه بولس الرسول فيما بعد، حين لم يفلُتْ من ربُط محبّتِه هو الآخَر، على الرغم من كلِّ ما فعله من اضطهاد وما سبَّبه من ضيقات لأبنائه وتلاميذه وتابعيه المؤمنين، قائلًا: "... الذي أحبَّني وأسلم نفسه لأجلي." (غلاطية 20:2) أجل، إنَّه عِمَّانوئيل "الله معنا". فهل اختبرت رُبُطَ محبته القوية الباذلة، وحنانه المتدفّق، وتأكَّدت من معيَّتِه لك في رحلة حياتك اليوميّة؟ قال تشارلز سپرجن:
"الصلاةُ والتسبيحُ هما المِجْذافان الوحيدان اللَّذان يستطيع بهما الإنسان أن يصلَ بقاربِه إلى سَبْر غَوْر بحرِ معرفة المسيح العميق." فهل تسبر غور بحر حبّه السني؟ قل له إذن بامتنانٍ وعِرْفان: آهٍ من حبِّك السَّني، يا يسوعي! لأنَّه علّمني الكثير!

المجموعة: أذار (مارس) 2022

logo

دورة مجانية للدروس بالمراسلة

فرصة نادرة تمكنك من دراسة حياة السيد المسيح، ودراسة حياة ورسائل بولس الرسول. عندما تنتهي من هاتين الدراستين تكون قد أكملت دراسة معظم أسفار العهد الجديد. تتألف كل سلسلة من ثلاثين درسًا. تُمنح في نهاية كل منها شهادة خاصة. للمباشرة بالدراسة، أضغط على خانة الاشتراك واملأ البيانات. 

صوت الكرازة بالإنجيل

Voice of Preaching the Gospel
PO Box 15013
Colorado Springs, CO 80935
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Fax & Tel: (719) 574-6075

عدد الزوار حاليا

178 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

إحصاءات

عدد الزيارات
10624392