لقد ضرب يسوع مَثَلَ [الدعوة للعشاء العظيم] في إنجيل لوقا 15:14-24 ردًّا على تعليقِ أحدُ المتّكئين في بيت الفرّيسي، الذي قال ليسوع في العدد 15: "طوبى لمن يأكل خبزًا في ملكوت الله".
فاستخدم يسوع هذا المثل ليعلِّمه هو وباقي المتكئين عن حقيقة هويّة الذين سوف يكونون حاضرين في قيامة الأبرار، أو في الوليمة العظيمة في ملكوت الله.
ويمكننا وضع هذا المثل تحت عنوان مجازي هو: "إلغاء أسماء المدعوّين"، لأن مناسبة العشاء تنتهي بإلغاء الأشخاص المدعوّين الأصليّين، لأنهم اعتذروا ولم يلبّوا الدعوة ورفضوا الدخول إلى العشاء، وقد تمّ استبدالهم بأشخاصٍ آخرين لا يتوقَّع أحدٌ دخولهم إلى مكان العشاء. وبالقراءة ما بين سطور هذا المثل نكتشف عددًا من الحقائق الإلهية، أهمها:
أولًا: المسيح أتمّ عمل الخلاص
يشبِّه الكتاب المقدس الكرازة للناس، ودعوتهم لدخول ملكوت الله، بعشاءٍ عظيمٍ، أو عرسٍ وفرح، ووليمةٍ فاخرة مكلِّفة. ويشبَّه الله برجلٍ محترمٍ، ثريٍّ، وسخيّ، يدعو الناس غير المستحقّين للحضور إلى وليمته والتمتُّع بتناولِ الطعام والشركة معه مجانًا. فقبول خلاص المسيح يعني احتفالًا، فرَحًا وتمتُّعًا، بعكس ما يروِّج له الشيطان بأن حياة الإيمان هي تقشّفٌ وحرمانٌ من السعادة والتمتّع. فقد أتمّ الله عملَ الخلاص على تلَّةِ الجلجثة بموتِ يسوع على الصليب فاتحًا ذراعيهِ وخاتمًا بقوله: "قد أُكمل." من ثم أرسل رسلَه وتلاميذَه ليكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها، ويدعون كلَّ البشر للتوبة وقبولِ خلاص المسيح المجّاني. كل شيء قد أُعِدّ بشكلٍ تام. بحسب سيناريو المثل، بقِيَ فقط توجيهُ دعوةٍ ثانيةٍ تؤكّد أن صاحبَ العشاءِ جاهزٌ والأبواب مفتوحة ووقت الحضور الآن. إن كل من يسمع ذلك الكلام يظن أن الناس سوف يلبّون الدعوة بفرحٍ وامتنانٍ لصاحبها، ولكن مع الأسف ليس هذا هو الحال مع الناس في أيام المسيح وفي كل العصور، فغالبية الناس يرفضون تلبية دعوة الخلاص.
ثانيًا: أعذارٌ واهية، وكاذبة
هؤلاء الأشخاص المدعوِّين للعشاء، يمثِّلون قادة إسرائيل وشعبها في أيام المسيح، فهم يعرفون التوراة ويحفظون النبوات وينتظرون المسيا على أحرّ من الجمر، ولكن عندما جاء الملكوت ممثَّلًا في شخص ابن الله، رفضوه وتآمروا على قتله. والمدعوّون للعشاء يمثّلون أيضًا معظم المسيحيّين الإسميّين في عصرنا الذين يرفضون التوبة ودخول الملكوت. إن الأعذار التي أوردها الأشخاص الثلاثة تلخِّص جملة الأعذار التي يختلقها الناس في كل العصور عند سماع كلمة الله والدعوة لقبول المسيح ربًّا ومخلِّصًا، تجدهم مشغولين بالأملاك أو بالعلاقات. إنها أعذار واهية، كاذبة تدلّ على أنهم يرفضون خلاص المسيح ودخول ملكوته. إن من يشتري حقلًا أو بقرًا ثم يفحصه أو يمتحنه هو أحمق، ولكن هؤلاء ليسوا حمقى، بل كاذبون يرفضون الدعوة بأسلوبٍ مهذَّبٍ ولطيف. نفس الأعذار يواجهها أولاد الله في يومنا الحاضر، عند محاولتهم تبشير الناس، أو دعوتهم للمجيء إلى الكنيسة، وسماع كلمة الله.
ثالثًا: فرصةُ دخولِ الملكوت لن تدوم
يعلِّم بولس الرسول في رومية 16:1-17 أن الأخبار السارة في الإنجيل ترافقها أخبار غير سارة، فكما أن الإنجيل هو قوة الله للخلاص لكلِّ من يؤمن، لأن فيه معلنٌ برّ الله بالإيمان، فإن نفس الإنجيل معلنٌ فيه أيضًا غضب الله من السماء على جميعِ فجورِ الناس وإثمهم (رومية 18:1). فالأخبار السارة هي تعبير عن نعمة الله ومحبته ودعوته للتوبة ودخول الملكوت، ولكن عصر النعمة والكرازة بالإنجيل هو فرصةٌ لن تدوم للأبد، وهي باب مفتوح سيُغلق قريبًا، كما يؤكد بولس في رومية 4:2 "أم تستهينُ بغنى لُطفِهِ وإمهالِه وطولِ أناتِه، غيرَ عالِمٍ أن لطفَ الله إنما يقتادُك إلى التوبة. ولكنكَ من أجلِ قساوتِك وقلبِك غيرِ التائب، تذخر لنفسِك غضبًا في يومِ الغضب، واستعلانِ دينونة الله العادلة." فالواضح أن ضياع الفرصة يعقبه إنزال لغضب الله ودينونته على الرافضين نعمته. وهو ما ذكره يسوع في هذا المثل بقوله في عدد 21: "حينئذ غضب رب البيت." فالكتاب المقدس يعلِّم بوضوح أن الله ينفذُ صبره ويغضب. ولكن غضب الله لا يعني نزوة أو موجة عصبية وعاطفية هدفها التشفِّي والانتقام، بل إن غضب الله يعبِّر عن قداسة الله، وموقفه الصارم من الخطيئة. إن غضب الله هو قرارٌ واعٍ يتّخذه الله بمعاقبة الخطيئة في العالم أينما وجدت. هذا المبدأ يتكرّر في الكتاب المقدس: "الرب إله رحيم ورؤوفٌ، بطيء الغضب وكثير الإحسان والوفاء. حافظ الإحسان إلى ألوف. غافر الإثم والمعصية والخطيئة. ولكنه لن يبرئُ إبراء." (خروج 6:34-7)
رابعًا: استبدال المدعوّين الأصليّين
إن الامتيازات التي يمنحها الله للشعوب والأفراد تستوجب تحمُّل مسؤوليات أكبر، فقادة وشعب إسرائيل في أيام المسيح تمتّعوا بامتياز أنهم شعب الله، وبنو الملكوت، لكنهم رفضوا دعوة يسوع للدخول إلى ملكوته، وكما فعل صاحب العشاء في المثل، لم يلغِ وليمة العشاء، بل ألغى المدعوّين الأصليين، واستبدلهم بآخرين، هكذا فعل الله في الواقع، فقد دعا الأمم البعيدين والغرباء عن رعوية إسرائيل وخلّصهم، وملأ ملكوته من كل الأمم والقبائل والألسنة والشعوب. وفي عصرنا الحاضر نجد التاريخ يعيد نفسه عندما يَقْبَل بشارة التوبة والخلاص أناس غير متوقَّعين من خلفيات غير مسيحية، فيخلصون ويدخلون ملكوت الله، أما المسيحيون الاسميّون فيرفضون التوبة الحقيقية، ودخول الملكوت. وما يحصل يؤكد تمامًا قول يسوع: وأقول لكم إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في ملكوت السماوات. وأما بنو الملكوت فيُطرَحون إلى الظلمة الخارجية." (متى 11:8)
إن الفكرة من هذا المثل هي أنه لا أحد يضمن سلفًا دخوله ملكوت الله بناء على خلفيته العرقية أو الطائفية، أو القومية، بل فقط بناء على توبته وقبوله المسيح مخلصًا شخصيًا، فكلُّ البشر مدعوّون، ولديهم فرصة للتوبة ودخول ملكوت المسيح، ولكن الفرصة لا تدوم للأبد، فالباب سيُغلق قريبًا، وغضب الله سوف يُسكب على من رفضوا فرصة التوبة وأضاعوها إلى الأبد.