في إحدى روايات القرن الماضي وفي الخمسينيات منه بالتحديد، يبرزُ في أحد مشاهد القصة أربعةُ رجالٍ في القرية راح كلٌّ منهم يعترفُ للآخر بخطاياه وأفعاله المُشينة.
فقال أحدهم صارخًا بأعلى صوته: كيف يسمح الله لنا أن نعيشَ على وجه هذه الأرض؟ ولماذا لا يقضي علينا وهكذا ينقّي الخليقةَ كلَّها؟ يا عزيزي مايكلز، أجابه آخر، لأنَّ الله هو الفخَّاري، وشغلُه بالطين.
أجل، فهذا بالضبط ما فعله الله في بداية سفر التكوين. فالخالق ذاتُ السيادة المطلقة على الكون صنعَ البشرية بتصميمٍ رائعٍ وفريد لا مثيلَ له.
وكانت هذه العملية بمثابة تشكيلٍ للإنسان من تراب الأرض. وكلمةُ تشكيلٍ أو صُنْعٍ تصفُ عملَ فنَّان محترف تمامًا كالفخَّاري حين يصبُّ الطينَ في القالب ويشكِّله كوعاءٍ أو نوعٍ آخر من الأوعية الفخارية.
قيل: "إنَّ مَنْ يعمل بيديه فهو عامل، والذي يعمل بيديه وفكرِه فهو محترِف، أما الذي يعملُ بيديه وقلبه فهو فنَّان عظيم." أما خالقُ البشرية وصانعُها فهو يعمل بيديه وفكرِه وقلبِه لأنَّه الإلهُ القدير الذي قال عن نفسه "أهيَه الذي أهيَه." (خروج 14:3) أي الكائن المطلَق، الذي كان والذي يكون والذي سيكون. فهو لم يدَعِ الإنسانَ أن يبقى مجرَّد شكلٍ أو تصميم رائع جميل، كالصَّنج الرنَّان الأجوف، بل غيَّر من شكله هذا إلى إنسان حيّ حين نفخَ في أنفه نسمة الحياة إذ يقول الكتاب: "فصار آدم نفسًا حية." (تكوين 7:2) وعليه أضحى الإنسان جسدًا ونفسًا وروحًا. والهدف من كل هذا هو لأنَّ الخالق ذاتَ السيادة والسلطان، أراد أن يمنحَ القدرة لهذا المخلوق على صورته ومثاله كشبَهه أن تكونَ له شركة وعلاقة معه تعالى. ألم يقل الكتاب: "ولذّاتي مع بني آدم؟" (أمثال 31:8)
لكنْ ما الذي حصل بعد سقوط هذا الإنسان في الجنة؟ سقوطه في خطية العصيان على الخالق المنَّان، وكسْره لوصيته وأكْلِه من الشجرة المحرَّمة؟ هل بقي الله الخالق يعمل في الطِّين بعد أن سقط آدم وحواء وكذا تبعتْهُم البشرية جمعاء؟ يقول [ميرفين وليمز]: نعم بالتأكيد. حتى وبعد السقوط بقي الله الخالق المصمِّم المبدِع يعمل في الطّين ويعيدُ جبْلَه وتشكيلَه.
لكن كيف؟ ليس هناك من شهادةٍ لهذا العمل المستديم في الإنسان أعظمَ وأسمى من سماع كثيرين وهم يعلنون للملا عن عمل الله في حياتهم وتغيير نفوسِهم وكيانهم. هاكَ مثلًا ما يقول هذا المرنم [دوغلاس أولدهام] Douglas Oldham حين يؤكد هذه الحقيقة ويشارك في ترنيمته عن هذا الفخَّاري الأعظم: "بينما كان الفخاري يتمشَّى مرةً، إذا به يرى وعاءً مُلقىً على الأرض مكسورًا بفعل العواصف والرياح والأمطار. فانحنى إلى أسفل وبكلِّ حذَرٍ وتؤدة حملَه بين يديه وبكلِّ حنانٍ ورقّةٍ أعاد صنْعَه من جديد. حسنًا، تابع المرنم يقول: يا أصدقائي، أنا كنتُ هذا الوعاءَ المهشَّم والمحطَّم ولم يكن أحد يظنُّ أنني نافع أو صالح، فصرخت إليه من أعماقي وصلّيت وقلت: "يا رب، أنت هو الفخّاري وما أنا سوى كتلةٍ من الطين بين يديك. أعدْ تشكيلي من جديد واصنعْني كما تريد."
أما المرنّم المعروف ماهر فايز فكتب هذه الصلاة مرتجيًا رحمةَ الله وقال:
أيُّها الفخَّاري الأعظم أنا كالخزفِ بينَ يديكَ
عُدْ واصنعْني وعاءً آخَر مثلَما يحسُن في عينيكَ
***
أُخضعُ ذاتي دونَ عنادِ لأصابعِكَ تُشـــكِّلُ فيَّ
لن أتوجَّع، لن أتراجَع فأنا اشتقتُ لعملِكْ فيَّ
***
آتي إليكَ بكلِّ فسادي ثقتي بنعمتِك ويديْكَ
لا لليأسِ ولا للماضي قلبي اتَّجهَ الآنَ إليكَ
وهكذا يا صديقي بقيَ الله يشتغلُ في الطّين ليغيِّرَ ويشكِّل هذه الأوعيةَ المكسورةَ والآنيةَ الضَّعيفة، ولم يحطِّمْها أو يتخلَّص منها قطّ، كما اقترحَ الرجلُ في الرواية آنفًا، وذلكَ حين نفَّذ خطتَه لإنقاذ الإنسان من هذا السقوط المريع إذ امتدَّ الخالقُ إلينا امتدادًا بشخصِ ابنه الأزلي الربِّ يسوع المسيح. وتنازلَ من عَليائه لكي يفتديَ البشرية جمعاء فماتَ على الصليب حاملًا بذلك عارَ البشر وخطاياهم في جسده. وآخذًا العقاب عنهم كيما يعيدَ خلْقَهم من جديد. لهذا قال الرسول بولس في رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس: "إنْ كان أحدٌ في المسيح فهو خليقة جديدة: الأشياء العتيقة قد مضت، هوذا الكلُّ قد صارَ جديدًا." (17:5) وحين يصرخُ هذا الإنسانُ العاصي، أي هذا الإناءُ المكسور والمحطَّم والبعيد عن الشركة مع الله، حين يصرخ إلى الله واثقًا بعمل الفادي المسيح من أجله شخصيًا كما فعل المرنِّم، يخلِّصُه الله ويحرِّره من عبودية الخطية والموت. وبقيامة المسيح من بين الأموات يحصُل هذا الإنسانُ التائب على حياةِ النُّصرة والغلبة على إبليس الشيطان. لأنه مكتوب: "فإنْ حرَّركم الابنُ فبالحقيقة تكونون أحرارًا." (يوحنا 36:8) وعندئذٍ تعود الشركة والعلاقة الحميمة من جديد مع الخالق الفخَّاري الأعظم. وعندها فقط يشتركُ هذا الإنسان بالشهادة والإعلان عمَّا حصل معه وبحياته من تجديدٍ وتغيير ويضمُّ صوته إلى أصوات الكثيرين عبرَ العصور والأجيال ممَّن اختبروا النعمةَ المتفاضلة جدًا والتي حوَّلتْ حياتَهم الجوفاء إلى حياة مليئة بالأمل والرجاء والإيمان فصاروا آنيةً طيِّعة بين يدي الخزَّاف العظيم.
أما المرنم [دوغلاس أولدهام] فلقد تغنَّى من جديد حين تحرَّر من الشعور بالذنب فراح ينشد ويقول بابتهاج أيضًا:
"في يوم من الأيام، عدتُ إلى البيت الذي كنتُ أعيش فيه. وهناك وجدْتُ ابنتي الصغرى تختبئُ وراء الباب خوفًا مني. فقلت لها: يا حبيبتي، لا تخافي، لأنَّ لديك الآن أبًا جديدًا. حسنًا، شكرًا لعمل الصليب لأنَّني لم أبقَ كما كنت. شكرًا للصليب لأنني لم أظلّ الأب الذي كنت عليه سابقًا. شكرًا للصليب الأشياء العتيقة قد مضت. والآن تحرَّرت من مخاوف الغد كما تحرَّرت من عقدة ذنوب الماضي. واستبدلْتُ قيودي بتاجٍ مجيد. آه، أطلقْتني حرًّا أخيرًا... سيّدي لك شكري يا ربي. أنا الآن حرٌّ من الذنب الذي كنت أعيش تحت ثقله، ومن وطأةِ الحياة الفارغة. تحرَّرتُ حين تقابلت مع مخلصي، فهو الذي حررني وجعلني كاملًا. لقد تناسى كم كنتُ جاهلًا وغبيًا. والآن أطلقَني حرًا من قيودي وذنوبي."
تحت عنوان إصلاح القلوب جذبتْني قصة قصيرة قرأتها مؤخرًا تقول: منذ وقتٍ ليس ببعيد ذهبتُ إلى خيّاطة لتعديل بعض من ملابسي. عندما دخلتُ متجرها تشجَّعتُ بما رأيته على الجدران. كانت إحدى اللوحات تقول: "يمكننا إصلاحُ ملابسك، لكنَّ اللهَ وحدَه الذي يستطيع إصلاحَ قلبك." وبالقرب منها كانت هناك لوحة لمريم المجدلية وهي تنتحبُ في كرْبٍ عظيم أمام يسوع المُقام وهو على وشك الكشف عن نفسه لها. أخبرتْني المالكة لهذا المحل، بأنها تدير هذا المشغل الصغير منذ خمسة عشر عامًا. وقالت: لقد تفاجأنا كيف أصلحَ الرب هنا قلوبًا محطّمة من خلال هذه الإعلانات الصغيرة التي وضعناها على الحائط.
ترى، هل تخبرُ الناس عن هذا الفخَّاري الأعظم الذي وحده يستطيع أن يعيدَ تشكيلَ طينة الإنسان من جديد؟
وحده الذي يبدّل قلب الحجر بقلب من لحم... لهذا يقول: "يا ابني أعطني قلبك." (أمثال 26:23) هو الذي يغيّر الداخل، عندها يظهر إلى الخارج، وهو الذي يعيد التشكيل والخلْق من جديد. أجل، الفخاري الأعظم وليس سواه.