تُرى، أيُّ سعْدٍ نراهُ في عالم اليوم؟ وأيُّ خبرٍ ينُبئُ بالفرح والبهجة من أخبارِ الساعة؟
وأيُّ سؤْدُدٍ ذي عزٍّ وشرَف ورِفْعة يسودُ المسكونةَ والساكنين فيها؟ أم أيُّ سلامٍ ووئامٍ نراهُ يتحقَّقُ بين الشعوب على كُرَتِنا الأرضيّة هذه؟ أو أيُّ عدْلٍ ينقذُ المظلومَ ويرفعُ من شأنِ المحروم؟ وقُلْ صديقي أيضًا أيَّةُ استقامةٍ أو نزاهةٍ يتَّسمُ بها أصحابُ المراكزِ والجاهاتِ في عالم الازدهارِ والتطوُّر والرُّقي كما يسمّونَه؟ ثم أينَ هي الحريةُ التي يتغنّون بها في عالمٍ طغتْ عليه الحروبُ والويلاتُ أكثرَ من أيِّ وقتٍ مضى؟!
في وقتٍ شبيهٍ ونظير للحاضرِ الذي يعيشُه الإنسان الآن وكذا البشريةُ جمعاء، ومنذُ ألفي عام تقريبًا، في ذلك الوقت العصيب الذي سبَقَ الحدَثَ البهيجَ الذي طالما توقَّعَتْه الأجيال، وبعد أنْ صمَت الوحيُ الإلهيُّ لمدة أربعة قرون متتالية - أي أربعمئة سنة من دون نبيٍّ يحملُ رسالةَ الله إلى البشر ومن دون تواصُلِ الله مع الناس بسببِ شرِّهِم وضلالِهم - عادَ وأطلَّ يومُ السَّعدِ الذي جلَبَ معه الفرحَ والسعادةَ الغامرة إلى عالم الإنسان، الحزين واليائس، إذ كانت روما تحكم الأرضَ آنذاك. لكن هل تُراه حقًا حمَل السّعدَ والهناء للساكنينَ على الأرض؟ وهل أحلَّ السلامَ والوئامَ بين الناس، وداخلَ قلوبٍ ملأتْها المرارةُ والحقدُ والبغضة من جرّاء القمعِ والاستعباد والظلمِ والإباحيةِ الخلقية السائدة؟ أم أنَّ الشعبَ القديم كان يحلمُ بالانتصارات عن طريق مجيءِ القائد الشُّجاع والملك الذي يضربُ بيدٍ ٍمن حديد ويخلِّصهم من الرومان؟!
لهذا حين ظهرَ يوحنا المعمدان على مسرحِ الأحداث انبَهر الشعبُ من كلامه وأعماله لأنَّه كان نبيًّا عظيمًا حتى ظنُّوا أنّه هو المسيا. لكن ماذا يخبرنا الطبيب لوقا ويقول: "وإذ كان الشعبُ ينتظر والجميعُ يفكّرون في قلوبهم ويتساءلون عن يوحنا ابنِ زكريا الذي أتى من البرية حالَما كانت عليه كلمةُ الله، فجاء إلى جميع الكورة المحيطة بالأردن يكرِزُ بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا، أجابهم يومَها: "أنا أعمِّدكُم بماء، ولكن يأتي مَن هو أقوى منّي، الذي لستُ أهلًا أن أَحُلَّ سيور حذائه. هو سيعمّدكم بالروح القدس ونار." (لوقا 16:3) إذن، ليس هو المسيَّا الذي كنا ننتظرُه مع أنَّ رسالته تشبه بالضبط رسالةَ الأنبياء في القديم.
لكنْ بزغَ فجرُ يومٍ جديد أشرقتْ فيه الشمسُ وهي تحملُ بين طيَّاتها شعاعًا من الأمل الرَّغيد وتُنبئُ عن حلولِ هذا اليومِ السعيد فعلًا، يومَ أعلنتِ السماءُ لسكان الأرض عن مجيء المسيح المخلِّص المسيا المنتظر. كيف؟ عن طريق بشارة الملاك للرعاة المتُبدّين وهم يحرسون حراساتِ الليل على رعيتهم، هناك على تلال بيت لحم في فلسطين. قال لهم: "لا تخافوا! فها أنا أبشِّرُكم بفرح عظيم يكونُ لجميع الشعب: أنَّه وُلد لكمُ اليوم في مدينة داود مخلِّص هو المسيحُ الرب." (لوقا 10:2) حتى وبعدَ أنِ انتشر الخبرُ في البلدة لم يُدركِ الناسُ حينَها أنه هو حقًا المخلّصُ الملكُ الموعود به. لأنَّه لم يولدْ بالقصر كباقي الملوك! ثم، أوَليس هذا ابنَ يوسفَ النجَّار؟ وأمّه مريم؟! كما راحوا يقولون؟!
أمّا الرعاة البسطاء في تلك الليلة فلقد شعروا بفرحٍ حقيقي يسري في حناياهم الداخلية حين بشَّرتهم الملائكة بقولها لهم:" المجدُ لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة." عندها قاموا مسرعين وذهبوا إلى بيتَ لحم وتأكدوا بأمِّ أعينِهم من حقيقة ولادةِ هذا الطفل المُعجزة الذي رأوه مقمَّطًا ومضجَعًا في مذود تمامًا كما وصفَه الملاك. وعن هذا الفرح الذي أُعلِنَ من السماء لسكان الأرض بمجيء المخلص المسيح كتبَ إسحق واتس Isaac Watts خادم الرب الإنكليزي واللاهوتي المعروف معبِّرا بكلماته البسيطة والعميقة في معانيها هذه القصيدةَ المميَّزة تحت عنوان: Joy To The World أي (فرحٌ للعالم) التي أضحتْ فيما بعد من أهمِّ ترانيمه أو قصائده البالغة أكثر من 750 قصيدة. عُرف عن إسحق واتس اللاهوتي العريق بأنَّه منذ صِغَره كان عبقريًا. كان الولدَ البِكْر لوالديه والأخ الكبير لإخوته التسعة. ظهرتْ عليه موهبةُ الشِّعْر منذُ أن كان صغيرًا. وكان منذُ نعومة أظفاره معتادًا على سماع والده القس وهو يقرأ كلمةَ الله ويصلّي على الرَّغم من أنَّه عُذِّب حين وُضعَ في السجن مرتين بسببِ عقائدِه. لكنَّه ترك أثرًا بليغًا في حياة إسحق ابنِه وحياة الكثيرين من الشباب أمثالِه. فحين كان إسحق في الخامسة من عمره تعلَّم اللغة اللاتينية وفي التاسعة اللغة اليونانية وفي الحادية عشرة الفرنسية وفي الثالثة عشرة العِبْرية. هذا بالإضافة إلى لغته الأصلية الإنكليزية. وفي الخامسة عشرة من عمره قَبِل إسحق الربَّ يسوع كمخلِّص شخصي له. كما درس واتس الفلسفة وعِلْم اللاهوت وبرزَ فيهما.
وعندما أصبح واتس شابًا كان مولَعًا بالترنيم. وتذمَّر في أحد الأيام لوالده عن نوعية الترنيم ووجَّه نقدًا للأسلوب الذي كانت تُرنَّم به المزامير الروحية في الكنيسة آنذاك. فتحدَّاه والده قائلًا: لماذا لا تكتب أنتَ أفضلَ منها إذن. قبِل إسحق التحدّي وقدَّم أول ترنيمةٍ من نظْمِه في الأحدِ التالي، ولمَّا قوبلت بحماسٍ شديد من قبَل العابدين عاد فكرَّر تجربته تلك ونجحَ حتى إنَّه جمع الترانيم المكتوبة في كتاب أسماه: ترانيم وأغانٍ روحية. وأتبعَه بكتابٍ آخَر كان لهما أثرٌ بليغ في نفوس الناس. وها هو هنا يكتب بإلهامٍ إلهي عن بشارة الملاك والفرح العظيم العميم الذي ساد المسكونة، لأنه يشيرُ إلى محبة الله للإنسان في كل زمان ومكان وأنّ ابنَ الله تنازل وصار ابنَ الإنسان لكي ينتشِلَ بني الإنسان ليُصبحوا أبناءَ الله. فكتب يقول:
1- هذا هو اليوم السعيدفَلْتفرحِ الشــُّعوبْ
فيه أتى الفادي المجيدليغفــــرَ الــــذُّنـــوبْ
2- هذا هو اليومُ العظيموبهجةُ الأزمــانْ
نِلْنا به الوعدَ القديم برحمةِ الــرَّحمانْ
3- هذا هو اليومُ الذيوافتْ به الأملاكْ
وبشَّرتْ بالمنقـذِفي ذُروةِ الأفلاكْ
4- هذا هو اليومُ المنيربالكوكبِ المـُــشرِقْ
فيه أتتْ رُسْلُ القديرمن سائرِ المشرِقْ
5- هذا هو اليومُ السَّنيبمولدِ الـرَّبِ
فسَبِّحوا المولى الغني تسبيحةَ الحــبِّ
ومن خلال هذه التعابير التي استوحاها من كلمات المزمور الثامن والتسعين القائل: "اهتفي للربِّ يا كل الأرض. اهتفوا ورنّموا وغنّوا... اهتفوا قدام الملك الرب! ... الجبالُ لِتُرنّمْ معًا أمامَ الرب، لأنَّه جاءَ ليدينَ الأرضَ. يدينُ المسكونةَ بالعدْل والشعوب بالاستقامة." بيَّن واتس أهميةَ هذا اليوم السَّعيد الذي فيه ستفرحُ كلُّ الشعوب لأنَّ المزمور يشيرُ إلى مجيء المسيح الملك الرب الذي وحده سيأتي ليدينَ الأرض والمسكونة بالعدْل والشعوبَ بالاستقامة.
أما لحنُ ترنيمة "هذا هو اليوم السعيد" فيُعتقدُ أنَّهُ مقتبسٌ عن الموسيقي الشهير جورج هاندل George Handel ومنظِّم اللّحن هو لويل مايسون Lowel Mason ويُعرف لحنُ الترنيمة باسم أنطاكيا Antioch. أمَّا ناظم هذه الترنيمة باللغة العربية فهو أسعد الراسي. وهكذا دوَّت قصة ولادة الرب يسوع بموسيقى ظلَّت تُلهم الموسيقيين لأكثرَ من ألفيِّ عام. إنَّ ترنيمةَ الملائكة ترنيمةٌ مفضَّلة في كلِّ الأوقات وكانتِ الأساسَ الذي بُني عليه العديدُ من الأعمال الموسيقية وترانيم الميلاد.
إنَّه فعلًا اليومُ السعيد، اليومُ العظيم، اليوم المنير واليوم السَّني وكذا يومُ البشارة المفرحة للملا أجمعين. فلقد وُلدَ يسوع المخلِّص الذي يخلّص من الخطية وعقابها المرير ويملِكُ على قلوبِ العبادِ وليسَ البلاد، فيغيِّرُ من طبيعتهم ويَحيا بداخلِهم بالروح القدس. عندها يحصَلون على السلام مع اللهِ الآب، والوئام مع الناس والانسجام مع النَّفس لأنَّ المخلِّصَ أنارَ للجميعْ وبغضِّ النظر عن خلفيَّتهم أو حالِهم، أنار للناس أجمعين الحياةَ والخلود. وكلُّ مَن يؤمنُ به مخلِّصًا وفاديًا وربًّا على حياته لا يستطيع إلَّا أن يغدُوَ منشدًا ومغرّدًا والفرح يغمرُ كيانَه بمجمله ويقول:
"هذا هو اليومُ السعيد فلْتفرَحِ الشعوب... فيه أتى الفادي المجيد ليغفرَ الذنوب." فهل حلَّ يومُ السَّعدِ حقًا وفعلًا في حياتك وبيتك وبينَ أهلِك؟ عندها تفوه: "ميلاد سعيد وبهيج!"
المراجع: عن حياة إسحق واتس (الإنترنيت/ غوغل)
وكذا مقتطفات من كتاب قصة ترنيمة (المركز اللوثري بيروت لبنان)