في ملء الزمان، منذ أكثر من ألفي عام، أُظهر السرّ المكتوم منذ الدهور، بميلاد المسيح بلا دنس من القديسة مريم العذراء.
وسرّ التجسّد كان في تدبير الله قبل تأسيس العالم. وقد لمحناه في ثنايا النبوات القديمة، كامنًا في الظلال والرموز والإشارات، إلى أن أعلنته السماء – عند ميلاد المسيح - بقدر ما يستطيع أن يستوعبه الإنسان.
ولن يتاح للبشرٍ استيعاب هذا السرّ استيعابًا تامًا إلا في الأبدية، عندما تتغيّر أجسادنا ونكون مثله، فنراه كما هو، أما الآن، وحتى بعد الإعلان، فسنظلّ نهتف مع بولس: "عظيم هو سرّ التقوى: الله ظهر في الجسد..."
وفي ذكرى الميلاد المجيد، دعونا نقوم معًا بجولة سريعة في الأناجيل، لنتتبّع سلسلة الإعلانات السماوية التي تحدثت عن المسيح، في مناسبة مولده. ولا شك أنها ستذهلنا بكثرتها وتنوّعها وتتابعها المتلاحق. وهكذا كان اهتمام السماء بكشف وإذاعة أعمق وأقدس وأمجد أسرارها، التي طال انتظارها وترقّبها:
أتى المعمدان أولاً يمهّد لمجيء المسيح. وكان إعلان السماء ملموسًا ومسموعًا عند معمودية الرب يسوع: "ونزل عليه الروح القدس بهيئة جسميّة مثل حمامة. وكان صوت من السماء قائلاً: "أنت ابني الحبيب، بك سررت." ولذلك أشار إليه المعمدان قائلاً: "هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم."
ومن قبل تنبّأ أبو المعمدان – بالروح القدس – عن المسيح: فلما سمعت أليصابات سلام مريم امتلأت من الروح القدس وصرخت بصوت عظيم: "... فمن أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليّ؟ ..."
وكذلك امتلأ زكريا – أبوه – من الروح، وتنبّأ نبوّة مفصّلة عن المسيح وإرساليته وعن المعمدان ومهمته.
أما العذراء مريم فقد جاءها جبرائيل الملاك خصّيصًا ليعلن لها الحدث العجيب، الذي لم ولن يشهد التاريخ نظيره: "ها أنتِ ستحبلين وتلدين ابنًا وتسمّينه يسوع. هذا يكون عظيمًا، وابن العليّ يُدعى... الروح القدس يحلّ عليكِ، وقوة العليّ تظلّلك، فلذلك أيضًا القدوس المولود منكِ يُدعى ابن الله."
ويوم ميلاد المسيح وقف ملاك الرب برعاة متبدّين، مبشّرًا بالفرح العظيم وكانت العلامة: "طفلاً مقمّطًا مضجعًا في مذود." ثم ظهر بغتة مع الملاك جمهور من الجند السماوي ينشد نشيده التاريخي: "المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرّة."
أما يوسف رجل مريم، فقد ظهر له ملاك الرب مرات ليفسّر له الأحداث، ويشرح له الدور الصعب الذي اختير للقيام به.
ثم جاء حديث الفلك، حين رأى المجوس نجمًا "يتقدّمهم حتى جاء ووقف فوق، حيث كان الصبي (يسوع)." "وإذ أوحي إليهم في حلم أن لا يرجعوا إلى هيرودس (الذي كان ينوي قتله)، انصرفوا في طريق أخرى إلى كورتهم."
وبعد أربعين يومًا، صعدوا بالطفل يسوع إلى هيكل أورشليم، حيث كان الروح قد اقتاد سمعان الشيخ. فأخذ الصبي على ذراعيه، وتحدَّث عنه باعتباره المخلص المنتَظَر لجميع العالم.
وكانت هناك أيضًا النبيّة حنة، فوقفت تسبّح الرب، وتكلّمت عنه مع جميع المنتظرين فداء في إسرائيل" وبذلك كانت حنة آخر من تنبّأ عن المسيح الفادي.
ولكن، لماذا كثرة الإعلانات، وتنوُّع أساليبها؟! كان القصد أن تنتبه الأرض إلى هذا المولود العجيب، باعتباره ابن الله الوحيد، الذي أشارت إليه النبوات منذ سقوط البشرية، وأن تقترب بمفاهيم الإنسان المحدودة، نحو أفكار الله الفائقة، في خطته الحكيمة السامية للفداء، لأن الفجوة بطبيعتها كبيرة جدًا: "كما علت السماوات عن الأرض، هكذا علت طرقي عن طرقكم وأفكاري عن أفكاركم." ومن ناحية أخرى، فقد جاء الإعلان عن ميلاد المسيح مكثَّفًا على هذا النحو، لأنه كان آخر إعلانات المحبة الإلهية: "الله، بعد ما كلّم الآباء بالأنبياء قديمًا، بأنواع وطرق كثيرة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه..." ومن الطبيعي أن يكون آخر الإعلانات مدوّيًا، لأن من تفوته معرفة الله عن طريق الكلمة المتجسّد، الذي بيّن لنا محبة الله الفائقة المعرفة، يكون قد ضيّع فرصته الأخيرة ولن يبقى له رجاء بعد، لأنه "كيف ننجو نحن إن أهملنا خلاصًا هذا مقداره؟" وإلى الآن – لا يزال الروح القدس يُقنع كل إنسان، "بغنى مجد هذا السرّ... الذي هو المسيح" الذي "ليس بأحد غيره الخلاص."
هذا هو عيد الميلاد... وفرحة العمر.