"فَإِذْ قَدْ تَأَلَّمَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا بِالْجَسَدِ، تَسَلَّحُوا أَنْتُمْ أَيْضًا بِهذِهِ النِّيَّةِ. فَإِنَّ مَنْ تَأَلَّمَ فِي الْجَسَدِ، كُفَّ عَنِ الْخَطِيَّةِ،
لِكَيْ لاَ يَعِيشَ أَيْضًا الزَّمَانَ الْبَاقِيَ فِي الْجَسَدِ، لِشَهَوَاتِ النَّاسِ، بَلْ لإِرَادَةِ اللهِ. لأَنَّ زَمَانَ الْحَيَاةِ الَّذِي مَضَى يَكْفِينَا لِنَكُونَ قَدْ عَمِلْنَا إِرَادَةَ الأُمَمِ، سَالِكِينَ فِي الدَّعَارَةِ وَالشَّهَوَاتِ، وَإِدْمَانِ الْخَمْرِ، وَالْبَطَرِ، وَالْمُنَادَمَاتِ، وَعِبَادَةِ الأَوْثَانِ الْمُحَرَّمَةِ، الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ يَسْتَغْرِبُونَ أَنَّكُمْ لَسْتُمْ تَرْكُضُونَ مَعَهُمْ إِلَى فَيْضِ هذِهِ الْخَلاَعَةِ عَيْنِهَا، مُجَدِّفِينَ." (1بُطرُس 1:4-4)
قد يبدُو الانضباط الذَّاتي لِلوَهلَةِ الأُولى وكأنَّهُ أمرٌ سَلبِيٌّ أكثَر ممَّا هو إيجابِيٌّ. لذلكَ يصعُبُ على المُؤمن أن يتقبَّلَ فكرَة النُّمُو في أمرٍ يبدُو لهُ سَلبِيًّا. فأن تنمُوَ في النَّعمَةِ والخِدمَةِ والإيمانِ والشَّرِكَةِ والعِبادَةِ ومعرِفَةِ كلمةِ اللهِ هُوَ أمرٌ، وأن تَنمُو في ضبطِ الذَّاتِ هُوَ أمرٌ آخرٌ مَختَلِفٌ، لا يخلُو من الصِّراعِ الدَّاخِليّ بينَ طبيعَةٍ قديمَةٍ تُحاوِلُ إطلاقَ العَنانِ لِنَفسِها، وبينَ طبيعَةٍ جديدَةٍ تُحاوِلُ ضبْطَ القَديمَةِ بِرُبُطِ القداسَة. فالتَّحدِّياتُ التي يُواجِهُها الطِّفلُ تختَلِفُ تمامًا عن التحدِّيات التي يُواجِهُها البالِغُ. "لأنَّ كُلَّ من يتناوَلُ اللَّبنَ هُوَ عَديمُ الخُبرَةِ في كلامِ البِرِّ لأنَّهُ طِفلٌ. وأمَّا الطَّعام القَويّ فلِلبالِغين الذين بسببِ التمرُّنِ قد صارَت لهُمُ الحواسُ مُدَرَّبَةً على التمييز بينَ الخَيرِ والشَّر." (عبرانِيِّين 13:5-14) يعني هذا في إطارِ النُّمُو في الانضباط الذَّاتي، أنَّ المُؤمِنَ النَّاضِج لا يَحِقُّ لهُ أن يُبقِي خُطُوطَ تماس معرَكَتِهِ في الانضباط الذَّاتي حيثُ كانت تمامًا عندما اختبر الخلاص. لذلكَ يقُولُ بُولُس للأفسُسِيِّين: "كي لا نَكُونَ في ما بعد أطفالًا مُضطَرِبِينَ ومَحمُولينَ بِكُلِّ رِيحِ تعليمٍ، بِحيلَةِ الناس، بِمَكرٍ إلى مَكيدَةِ الضَّلال." (أفسُس 14:4) الانضباط هُوَ عمَلِيَّةُ تَدرُّب مُتَدَرِّجَة، لذلكَ يتطلَّبُ النُّمُوّ، أي أن يُصبِحَ المُؤمِنُ أكثَرَ انضباطًا، يومًا بعدَ الآخر.
1- دَواعي النُّمُوّ
تَوَسُّعُ تحدِّياتُ الخدمَةِ الإرساليَّة؛ ازدِيادُ حاجاتُ العالم الرُّوحيَّة؛ تفاقُم واقِعيَّةُ التَّجارِب الأخلاقِيَّة؛ وخُطُورَة المُنافَسة الإيديُولُوجيَّة؛ كُلُّها تُشيرُ إلى الحاجَةِ الماسَّة لِكُلِّ مُؤمِنٍ لكي ينمُو في الانضباط الذَّاتي. وفوقَ كُلِّ ذلكَ، إن كُنَّا نَنالُ نعمَةَ الخلاصِ والفِداءِ مجَّانًا، إلا أنَّ المُكافآت والأكاليل السماوِيَّة، فلا ننالُها إلا بناءً على مِقدارِ الجِهاد في الخدمة: "ألَستُم تَعلَمُونَ أنَّ الذين يركُضُونَ في المَيدان جَميعُهم يركُضُون، ولكنَّ واحِدًا يأخُذُ الجعالة؟ هكذا أركُضُوا لِكَي تنالُوا. وكُلُّ من يُجاهِدُ يضبُطُ نفسَهُ في كُلِّ شَيء. أمَّا أُولئكَ فَلِكَي يأخُذُوا إكليلًا يَفنَى، وأمَّا نحنُ فإكليلًا لا يفنَى." (1كُورنثُوس 24:9-25)
2- مَصادِر النُّمُوّ
نذكُرُ منها:
الطبيعة الجديدة المخلُوقة في المسيح يسُوع: "أستطيعُ كُلَّ شَيءٍ في المسيح الذي يُقوِّيني."
الرَّجاء السماوِيّ: "كُلُّ من عِندَهُ هذا الرَّجاء بهِ، يُطَهِّرُ نفسَهُ كما هُوَ طاهِر." (1يُوحَنَّا 3:3)
سحابَة الشُّهُود من أبطالِ الإيمان الذين كانُوا قُدوَةً، وعلى رأسِهم الرَّب يسُوع المسيح: "لِذَلكَ نحنُ أيضًا إذ لنا سحابَةٌ من الشُّهُود مِقدارُ هذهِ مُحِيطَةٌ بِنا، لِنَطرَحْ كُلَّ ثِقلٍ والخَطيَّة المُحِيطَة بنا بِسُهُولَة ولنُحاضِرْ بالصَّبر في الجِهادِ المَوضُوع أمامَنا." (عبرانِيِّين 1:12)
ذِكرى ذَبيحَة الصَّليب: "ولكن ليَمتَحِنِ الإنسانُ نفسَهُ وهكذا يأكُلُ من الخُبزِ ويشرَبُ من الكأس... لأنَّنا لو كُنَّا حَكَمنا على أنفُسِنا لما حُكِمَ علينا، ولكن إذ قد حُكِمَ علينا، نُؤدَّبُ من الرَّب، لكَي لا نُدانَ مع العالم." (1كُورنثُوس 11: 28، 31)
3- تكاليف النُّمُوّ
إنَّ أغلى ثَمَنٍ دُفِعَ لافتِداءِ البَشَر من عُبُوديَّتِهِم للخطيَّة، هُو صَليبُ المسيح، قدُّوسِ الله: "ناظِرينَ إلى رَئيسِ الإيمانِ ومُكَمِّلِهِ يسُوع، الذي من أجلِ السُّرُور المَوضُوع أمامَهُ، احتَمَلَ الصَّليب مُستَهينًا بالخِزي فجَلَسَ في يَمينِ عَرشِ الله. فَتَفَكَّرُوا في الذي احتَمَلَ منَ الخُطاةِ مُقاوَمَةً مثلَ هذه لِئلا تَكِلُّوا وتَخُوروا في نُفُوسِكُم. لم تُقاوِمُوا بعد حتَّى الدَّم مُقاوِمِينَ ضِدَّ الخَطِيَّة." (عبرانِيِّين 2:12-4) يتكلَّمُ بُولُس عن كِلفَةِ النُّمُوّ في ضبطِ النَّفسِ، مُحددًا أُطُرَ المَمنُوعِ والمَسمُوح، بناءً على المبدأِ التَّالي: "كُلُّ الأشياءِ تَحِلُّ لي، لكن ليسَ كُلّ الأشياء تُوافِق. كُلُّ الأشياء تَحِلُّ لي، ولكن ليسَ كُلُّ الأشياء تَبني. لا يطلُبْ أحدٌ ما هُوَ لِنَفسِهِ بَل كُلُّ واحِدٍ ما هُوَ للآخَر... كما أنا أيضًا أُرضي الجميعَ في كُلِّ شَيءٍ غيرَ طالِبٍ ما يُوافِقُ نفسي بلِ الكَثيرينَ لكَي يخلُصُوا." (1كُورنثُوس 23:10-24، 33)
4- مخاطِر عدم النُّمُوّ
"ولماذا تنظُرُ القَذَى في عَينِ أخيكَ، وأمَّا الخَشَبة التي في عَينِكَ فلا تفطَنُ لها؟ أم كيفَ تقُولُ لأخيكَ: دَعني أُخرِجُ القَذَى من عَينِكَ، وها الخَشَبَةُ في عينِكَ؟ يا مُرائي، أخرِج أوَّلًا الخَشَبَةَ من عَينِكَ، وحينئذٍ تُبصِرُ جَيِّدًا أن تُخرِجَ القَذَى من عَينِ أخِيكَ!" (متَّى 3:7-5)
"فأنتَ إذًا الذي تُعَلِّمُ غَيرَكَ، ألستَ تُعَلِّمُ نفسَكَ؟ الذي تَكرِزُ: أن لا يُسرَقَ، أتَسرِق؟ الذي تقُولُ: أن لا يُزنَى، أتَزنِي؟ الذي تستَكرِهُ الأوثان، أتَسرِقُ الهَياكِل؟" الذي تفتَخِرُ بالنَّامُوس، أبِتَعَدِّي النَّامُوس تُهينُ الله؟ لأنَّ اسمَ اللهِ يُجدَّفُ عليهِ بِسببِكُم بينَ الأُمم، كما هُوَ مكتُوبٌ." (رُومية 21:2-24)
"إذًا، أنا أركُضُ هكذا كأنَّهُ ليسَ عن غَيرِ يَقين. هكذا أُضارِبُ كأنِّي لا أضرِبُ الهَواء. بَلْ أقمَعُ جَسَدِي وأستَعبِدُهُ، حتَّى بعدَ ما كَرَزتُ للآخَرين لا أصيرُ أنا نَفسي مَرفُوضًا." (1كُورنثُوس 26:9-27) والأخطَرُ من كُلِّ ذلكَ، هُوَ عندما ينمُو المُؤمِنُ في الانضباط الذَّاتي لِفَترَةٍ طويلة، ثُمَّ يُقرِّرُ أن "يستَريحَ في صِهيون"، بأن يتوقَّفَ عنِ النُّمُو وأن ينامَ على أمجادِ ما حقَّقَهُ في الماضي: "إذًا من يَظُنُّ أنَّهُ قائِمٌ، فلينظُر أن لا يسقُطَ." (1كُورنثُوس 12:10)
5- دلائِل النُّمُو
توفُّر دائم للخِدمة؛ استقرار في المُستَوى الرُّوحي؛ ثباتٌ في المُسَلَّماتِ والمُطلَقات؛ طاعَةُ الرَّب بِفَرَح؛ سلامٌ وسط العاصِفة؛ نَقاوَة رُغمَ الفساد المُستَشري في المُحيط؛ اقتِداء الآخرين عَفوِيًّا بالمُؤمن الذي ينمُو في الانضباط الذَّاتي؛ "معَ المَسيحِ صُلِبتُ، فأَحيا لا أنا، بل المَسيح يحيا فيَّ. فما أحياهُ الآن في الجَسد فإنَّما أحياهُ في الإيمان، إيمان ابن الله الذي أحَبَّني وأسلَمَ نفسَهُ لأجلِي." (غلاطية 20:2)
6- نماذِج النُّمُوّ
يذخَرُ الوَحيُ بِسِيَرِ قدِّيسينَ، في العهدَين القَديم والجديد، بحياةِ قداسَةٍ نموذجيَّة.
نَمُوذَج يُوسُف ابن يعقُوب: "وحَدَثَ بعدَ هذه الأُمُور أنَّ امرأَةَ سَيِّدِهِ رَفَعَت عينَيها إلى يُوسُف وقالَت: [اضطجِعْ معِي]. فأبَى وقالَ لامرأَةِ سَيِّدِهِ: [هُوَّذا سَيِّدي لا يعرِفُ معِي ما في البَيت، وكُلُّ ما لهُ قد دَفَعَهُ إلى يَدي... فكيفَ أصنَعُ هذا الشَّر العَظيم وأُخطِئُ إلى الله؟" (تكوين 7:39-9)
نَمُوذَج دانيال: "أمَّا دانِيال فَجَعلَ في قَلبِهِ أنَّهُ لا يتنجَّسُ بِأطَايِبِ المَلِك ولا بِخَمرِ مَشرُوبِهِ." (دانيال 8:1)
نَمُوذَج يسُوع: "فإذْ قد تألَّمَ المَسيحُ لأجلِنا بالجَسَد، تَسَلَّحُوا أنتُم أيضًا بهذه النِّيَّة. فإنَّ من تألَّمَ في الجَسَد كُفَّ عنِ الخَطيَّة، لكي لا يعِيشَ أيضًا الزَّمانَ الباقِي في الجَسَد، لِشَهَواتِ النَّاس، بَلْ لإرادَةِ الله. لأنَّ زمانَ الحياة الذي مَضى يَكفينا لِنَكُونَ قد عَمِلنا إرادَةَ الأُمَم، سالِكينَ في الدَّعارَة والشَّهواتِ، وإدمانِ الخَمر، والبَطَر، والمُنادَمات، وعِبادَة الأوثان المُحرَّمة، الأمرُ الذي فيهِ يستَغرِبُونَ أنَّكُم لستُم تركُضُونَ معَهُم إلى فَيضِ هذه الخلاعة عينِها، مُجَدِّفِين. الذين سوفَ يُعطُونَ حِسابًا للذي هُوَ على استعدادٍ أن يدِينَ الأحياءَ والأموات." (1بُطرُس 1:4-5)
7- نتائج النُّمُوّ
نتيجَةُ النُّمُو في الانضباط الذَّاتي هي رَهنُ نتيجَةِ الصِّراعِ الدَّاخِلي بينَ الإنسان القَديم والإنسان الجديد، ورَهن من هُوَ الرَّابِحُ في هذه المعرَكَة. السِّرُّ يكُمُنُ في كونِنا نستخدِمُ المعايير الأبديَّة "ولكنَّ كُلَّ تأديبٍ في الحاضِر لا يُرَى أنَّهُ لِلفَرَح بَلْ لِلحَزَن. وأمَّا أَخيرًا فَيُعطِي الذين يتدرَّبُونَ بهِ ثَمَرَ بِرٍّ للسَّلام." (عبرانِيِّين 11:12)
"قد جاهَدتُ الجِهادَ الحَسَن، أكمَلتُ السَّعي، حَفِظتُ الإيمان، وأخِيرًا قد وُضِعَ لي إكليلُ البِرّ، الذي يَهَبُهُ لي في ذلكَ اليوم، الرَّبُّ الدَّيَّانُ العادِلُ، وليسَ لي فقط، بَل لِجَمِيعِ الذين يُحِبُّونَ ظُهُورَهُ أيضًا." (2تيمُوثاوُس 7:4-8)
