"أين هو إيماني؟ حتى إنَّني لا أجدُ شيئًا في حنايا نفسي الداخلية سوى الفراغِ والظلمة. إذا كان هناك إله – فإنَّني ألتمِسُ غفرانَه."
ربَّما ستستغربُ صديقي مَن هو قائلُ هذه الكلمات! إنَّها الأم تيريزا، كما كانوا يسمّونَها. فلقد نذرتْ نفسَها لتكونَ راهبةً ومعلّمة لِما يقاربُ عقدَيْنِ من الزمن قبل أن تتفرّغَ بالكليَّة لمساعدة الفقراء والمرضى المُعدَمين في (كَلْكـتَّا، الهند). حيث اشتُهرت هذه الأم الرؤوم في عملها الإرسالي كخادمة مضحّية في حياتها فحازت على جائزة نوبل من أجل أعمالها الخيرية لسنين طويلة قضتْها هناك تهتمُّ بمرضى الجُذام أي (البرَص).
نعم، هذه الأم تيريزا خاضتْ بنفسها - لكن بهدوء- حربًا في داخلِها من أجل إيجاد أجوبة ٍشافية ووافية في شأن إيمانِها على مرِّ خمسةِ عقودٍ من الزمن. ولم تُرَ، أو تَعرِفْ معاناتُها هذه النور، إلَّا بعدَ موتِها في العام 1997 حين طُبعت أجزاءٌ من دفتر يوميَّاتها في كتاب بعنوان: Come and Be My Light (تعالَ وَكُن نورًا لي). وعلى الرَّغم من تساؤلاتها تلك إلَّا أنَّ مِن أجمل ما قالتْه مرَّة: "أنا لا أصلّي للنجاح بل لاكتمالِ إيماني- والكلماتُ التي لا تعطي نورَ المسيح تزيدُ الظلام- الجوعُ إلى المحبة أعظمُ من الجوع إلى الخبز."
ماذا تُرانا نقولُ إزاءَ شكوكِنَا التي تراودُنا أحيانًا أو المشاعر التي تتملَّكُنا في شأنِ غيابِ اللهِ عنَّا؟ من الممكنِ جدًّا أن تُداهمَ هذه الأحاسيسُ بعضَ المؤمنين أكثَر من البعض الآخَر. لكنَّ العديدَ من المؤمنين الأمناء في المسيح لا يُستبعَد أن يختبروا في أوقاتٍ ما من حياتهم فصولًا عابرَة من تلكَ الشكوكِ والمخاوف التي تهاجمُ فكرَهم فتؤثِّرُ على سلامهم وتَنزِعُ فرحَهم منهم. لقد دوَّنت الأم تيريزا مشاعرَها تلك حين أحسَّتْ بغيابِ الله وابتعادِه عنها. وكانت صادقةً بالطَّبع فيما كتبَتْهُ في مذكَّراتها اليومية. إزاءَ هذا الإخلاص في التعبير عمَّا يجول في القلب أحيانًا، أو عمَّا يداهمُ الفكر من شكّ، هل نعبّرُ نحن أيضًا عنه بصدْق؟ أم نخجلُ فنصمُت! أم أنَّنا حتى ولو حدَث وفقدْنا إيمانَنا كمؤمنين نبقى نتظاهرُ أمام الآخرين وكأننَّا أبطالٌ في الإيمان للمحافظة على قامتنا الرّوحية العملاقة أمامَ الناس! حبَّذا لو نفحص أنفسنا!
عرضَ الكاتبُ (فيليب يانسي) في كتابه أمثلةً من هذا القبيل وأنقلُ هنا قصةَ ريتشارد (بتصرّف). إذ تحدَّث المؤلّف عن المكالمة الهاتفية التي أجراها معه حين كان ريتشارد بعدُ طالبًا جامعيًّا وفي أوَّل إيمانه. هذا كتب بحثًا عن سفر أيوب وأراد منه أن يطّلِعَ عليه وينقِّحَه له. ومع أنَّ النص كان شيّقًا ولا بأسَ به بالنسبة لشخصٍ مبتدئ، إلَّا أنَّ الكاتب نقّحه له وأصبحَ جاهزًا للطباعة. وحينما التقى بـ ريتشارد وجهًا لوجه فوجئَ أنَّه كان متجهِّمَ الوجه وظهَر نحيفًا ضعيفًا وكأنَّه خاضَ معركةً صعبة. وتبيَّن أنَّه أُصيبَ بخيبةِ أملٍ كبيرة بالله، بعد أن تطلّقَ والداه، وحين تخلَّتْ عنه خطيبتُه. كما أنَّ حالتَه الصحية بدأتْ تتدهورُ حين أفلتَتْ من يده فرصُ عملٍ عديدة. ووجدَ نفسه يغرق شيئًا فشيئًا، مع أنَّه أراد أن يثقَ بالله لكنَّه كان كلَّما مدّ َّيده نحو الله وجدَها تعود فارغةً إليه. وأحسَّ ريتشارد عندها بأنَّ كلَّ صلواته لم تُستجبْ. حصل له كلُّ هذا وهو يدرسُ سفر أيوب الذي تراءى له الله في النهاية. أمَّا الله فلم يتراءَ لعبده ريتشارد. لذلك توقَّف عن كلِّ ما لَه علاقة بالله، وفقدَ ثقته وبالتالي إيمانَه. إنَّ اختبار ريتشارد هذا وغيرَه دفع بالمؤلف فيليب يانسي إلى أن يبحثَ ويكتبَ عمَّا يُسمَّى بخيبةِ أمل الإنسان بالله، لكنْ من منظارٍ جديد. حاولَ فيه أن يخرجَ عن صمته هو الآخَر فتساءل: هل اللهُ ظالم؟ وأين هو عندما أتألَّم؟ أهو صامتٌ لا يتكلّم؟ أم أنَّه مُحتجِبٌ أو مختبِئ؟ (من كتاب فيليب يانسي: Disappointment With God وبالعربية: عندما لا تُمطرُ السماء).
لا بد َّأنَّ البعضَ منا أصدقائي إنْ لم نَقُلِ العديد من المؤمنين قد اجتازوا بمثلِ هذه اللحظات من جرَّاء خيبات الأمل في وقتٍ ما من حياتهم حتى لَشعروا أحيانًا وكأنَّهم متروكون أو منسيّون من قِبَل الله الآب. وتساءلوا حينذاك تمامًا كما تساءل المرنم والنبي داود قديمًا: "يا رب لماذا تقفُ بعيدًا، لماذا تختفي في أزمنةِ الضِّيق؟" (مزمور 1:10) أو ضَمُّوا أصواتهم إلى بني قورح في قصيدتِهم: استيقظ، لماذا تتغافى يا رب. انتبِهْ لا ترفُضْ إلى الأبد. لماذا تحجُبُ وجهَك وتنسى مذلَّتَنا وضيقَنا." (مزمور 23:44-24) ثمَّ ماذا عن يوسف الذي قضى في السجن سنينَ عديدة ظُلمًا وبُهتانًا؟ تُرى هل فكَّر بأنَّ الله ظالمٌ ، صامتٌ، أم مختبئ؟
تحضُرني الآن حادثةٌ هامّة في الإنجيل تحمِلُ في طيَّاتها الحالتيْن المتناقضتيْن كِلتَيْهما للإيمان وعدَمِه. تُراها لِمَن؟ إنَّها لأبٍ معذَّب ومجروحٍ في الصَّميم ومُصابٍ بخيبةِ أمَلٍ كبيرة. هذا أتى إلى المسيح ليُخبرَه عن ابنه الذي يُعاني من الروح الأخرس النَّجس الذي يسكن فيه. فقال بأنَّه حيثما أدركَه هذا الرّوح كان يمزّقه فيُزبد ويصرُّ بأسنانه وييْبس. فأمر يسوع بتقديمه إليه. فلمَّا رآه للوقت صرعَه الروح. فسأل يسوعُ أباه عن الزمان منذُ أصابه هذا. فقال له: منذُ صباه. وكثيرًا ما ألقاهُ في النار وفي الماء ليُهلِكَه. وعندَها طلبَ من يسوع أن يتحنَّن عليه. فقال له يسوع: "إن كنتَ تستطيع أن تؤمن كلُّ شيء مستطاع للمؤمن." فصرخ الأب بدموعٍ وحرْقةِ قلب وقال: "أومنُ يا سيِّد. فأعِنْ عدمَ إيماني." فانتهر يسوع الرّوحَ النَّجِس وأمرَه أن يخرجَ منه ولا يدخلْه أيضًا. فصرخَ وصرعَه شديدًا وخرج. فصارَ كميِّت. فأمسكَه يسوع بيده وأقامه فقام." (مرقس 14:9-24)
أومنُ يا سيّد فأعِنْ عدمَ إيماني! هل يُعقل أن يؤمنَ الأب ومن ثمَّ يطلب المعونةَ لعدم الإيمان؟ نعم، هذا بالضبط ما حصلَ. إذ صرخ صرخةً صادقة تَنشدُ الشفاء للولد المعذَّب عبَّر فيها عن إيمانه، وبنفس الوقت كانتْ صرخةَ خيبةِ أملٍ من حالةٍ مستعصية ويطلب فيها العون لعدم إيمانه. نعم، هي مواقفُ متناقِضة أو مشاعرُ ممتزَجة نحسُّ بها أحيانًا في الصَّميم لكنَّنا لا نبوحُ بها لأحد. هذه تجد طريقَها إلى دفتر مذكرات البعض منا، فتكونُ بمثابة محادثةٍ بيننا وبين إلهِنا وحده الحيّ والعارفِ القلوب وفاحصِ الكِلى عساه يعين عدمَ الإيمان فينا ويشفي المتناقضات في داخلنا.
وإذا نظرنا نظرةً واحدة الآن إلى ما يجري في عالمنا المليء بالحروب والويلات والقتل والدمار فكيف تُرانا نشعر؟ هل اللهُ محتجِبٌ عنَّا؟ هل الله بعيدٌ لا يسمعنا؟ ألا يسمعُ أنينَ المعذَّبين والمتألِّمين؟ "الغارسُ الأُذن ألا يسمع؟ الصانعُ العين ألا يُبصر؟" (مزمور 9:94)
استمعْتُ عدةَ مرّاتٍ إلى إحدى الترانيم المُنتَجة في لبنان والتي اشترك فيها مرنِّمون عديدون في الشرق الأوسط (على الزّوم) وهي من إخراج جمعية (كُنْ نورًا Be Light) فتأثَّرتُ بكلماتها ورحتُ أردِّدُها كصلاة من قلبٍ موجوع على مآسي شرقنا المقهور. تقول الكلمات:
عندما يسودُ الخوفُ ويشتدُّ الظَّلام، في ظلِّ صمتِ الحقِّ يعلو صوتُ الآلام. تُرفرفُ بروحِكَ، فوقَ الظلمةْ السَّائدة، وتأمُرْ بكلمتِكَ وتُعلِنْ نورَك.
فَبِلادي يا ربُّ تصرخُ إليك، ألا ترجِعُ وتخلِّصُ عملَ يديك. ها نحنُ نرجِعُ لك، نطلبُ حضورَك، أبرِئْنا خلِّصنا أرِنا مجدَك..
نعم، ومهما اشتدَّ الظلام وحَلُكَ من حولنا، فإنَّ النور يضيء ببهاءٍ أقوى وكلماتُ الأمل لا بدَّ أن تخترقَ إلينا من مصدر النور الحقيقي الربِّ يسوع نفسه. فهو وحدَه الذي ينادينا ونحن في شكوكنا وتساؤلاتنا ليقولَ لنا: لا تخافوا، كيف لا إيمانَ لكم.
نعم، فمهما تساءلْنا أو راودَتْنا الشكوكُ في بعض الأحيان، فإنَّ الله المثلّثَ الأقانيم يبقى الأبَ الحنون المحبّ الذي ليس فيه تغييرٌ ولا ظلُّ دوران وهو وحدَه السائدُ في مملكة الناس. وكذا الابنُ الوحيد الربُّ يسوع المسيح الأقنومُ الثاني الحيُّ والقائم من الأموات يظلُّ مخلِّصَنا وراعينا العظيم، والروح القدس الأقنومُ الثالث يسكنُ فينا ويعملُ في القلوب ويعزّي ويرشِد ويعينُ حتى في ساعاتِ خيبات الأمل، ليُحيي فينا هذا الرجاءَ الحيّ المبارك من جديد. وعندها تطمئنُّ القلوب وترتاحُ النفوس ويعودُ الإيمانُ ليرفعَنا من جديد. نعم، أؤمِنُ يا سيد، فأعِنْ عدمَ إيماني.