يعتقد البعض أن اختيار الأمم ودعوتهم لحظيرة الإيمان المسيحي بدأت بخدمة الرسول بولس،
لا سيما عندما أعلن في أنطاكية بيسيدية "هُوَذَا نَتَوَجَّهُ إِلَى الأُمَمِ." (أعمال 46:13)، وكذلك في كورنثوس "مِنَ الآنَ أَذْهَبُ إِلَى الأُمَمِ." (أعمال 6:18) ويرى آخرون أن الأمر سابق للرسول بولس، عندما أمر الرب تلاميذه الأحد عشر بكلمات الإرسالية العظمى "فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ." (متى 19:28) والحقيقة هي أن النعمة الإلهية قُدِّمت للأمم قبل ذلك بكثير. نعم، كانت في فكر الله منذ الأزل، لكنها خرجت إلى العيان والاختبار في حياة بعض الناس وهذا ما سنستعرضه بعد قليل.
باعتبارنا من الأمم – ولسنا يهودًا – فإننا مدينون لاختيار النعمة هذا، وتفيض قلوبنا بالشكر لأجل نعمته المتفاضلة التي نحن فيها مقيمون.
الاختيار في عصر الآباء
جرى العُرف باعتبار إبراهيم وإسحاق ويعقوب هم الآباء أو البطاركة الأوّلون. إلّا أننا في بحثنا هذا سنذهب إلى البداية، منذ أيام آدم ثم نأتي إلى فترة إبراهيم وإسحاق ويعقوب.
لم يعرف التاريخ معنى "الأمم" قبل حادثة برج بابل (تكوين 1:11-9)، حيث "كانت الأرض كلّها لسانًا واحدًا ولغةً واحدة." (تكوين 1:11) كان الله يتعامل مع البشر كأمّة واحدة وشعبٍ واحد، فخلق الله الإنسان – في محبته ونعمته – على صورته كشبهه (تكوين 26:1). وتواصل مع الإنسان من أجل معرفته وعبادته عبادة صحيحة ومقبولة (تكوين 1:4-7). ووجد نوح نعمةً في عينَيِ الرب (تكوين 8:6) رغم كثرة شرور البشر في ذلك الوقت. وجاء الرب بالطوفان لكي يغسل الأرض من هذه الشرور، ويبدأ بداية جديدة مع نوح ونسله. بعد نوح، بدأ عصر الآباء إبراهيم وإسحاق ويعقوب، مع أنه في هذه الفترة بدأ كيان إسرائيل كأسرة ثم كأمة، إلا أننا نلمح بوضوح مقاصد الله ونعمته في اختيار الأمم.
علامات على الطريق
هذه العلامات المضيئة تكشف لنا عن اختيار إله كل نعمة للأمم، ووجودهم في دائرة العناية الإلهية والخلاص أيضًا.
إبراهيم: احتلّ إبراهيم مكانة خاصة عند اليهود. في أيام خدمة المعمدان والمسيح، كانوا يفتخرون زورًا أن إبراهيم أبٌ لهم، وقالوا للمسيح: «إِنَّنَا ذُرِّيَّةُ إِبْرَاهِيمَ، وَلَمْ نُسْتَعْبَدْ لأَحَدٍ قَطُّ! كَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ: إِنَّكُمْ تَصِيرُونَ أَحْرَارًا؟» (متى 9:3؛ يوحنا 33:8). ربما المرجع في هذا هو دعوة إبراهيم قديمًا "أَبْرَامَ الْعِبْرَانِيَّ" (تكوين 13:14). بالطبع لأنه من نسل سام الذي قيل عنه "سَامٌ أَبُو كُلِّ بَنِي عَابِر" (تكوين 21:10). وما يهمنا بالأولى هو دعوة الله واختياره لإبراهيم، وهل كان وقتها يهوديًا (عبرانيًا)، أم أمميًا؟
كانت بداية علاقة إبراهيم مع الله عندما دعاه الله وهو في أور الكلدانيين. وصف لنا يشوع حال إبراهيم مع عائلته في ذلك الوقت: «هكَذَا قَالَ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ: آبَاؤُكُمْ سَكَنُوا فِي عَبْرِ النَّهْرِ مُنْذُ الدَّهْرِ. تَارَحُ أَبُو إِبْرَاهِيمَ وَأَبُو نَاحُورَ، وَعَبَدُوا آلِهَةً أُخْرَى. فَأَخَذْتُ إِبْرَاهِيمَ أَبَاكُمْ مِنْ عَبْرِ النَّهْرِ وَسِرْتُ بِهِ فِي كُلِّ أَرْضِ كَنْعَانَ، وَأَكْثَرْتُ نَسْلَهُ وَأَعْطَيْتُهُ إِسْحَاقَ." (يشوع 2:24- 3). لم يكن إبراهيم أمميًا فقط، بل كان عابدًا لآلهة أخرى مع سائر عائلته. لكن النعمة الإلهية تجلّت حينئذ لتخرجه من ذلك الوسط الوثني ليعرف الإله الحقيقي ويعبده.
هناك محطة أخرى في حياة إبراهيم لا تقلّ أهمية عن دعوته للخروج من أرضه وعشيرته ومن بيت أبيه. بدأت هذه المحطة حين "آمَنَ بِالرَّبِّ فَحَسِبَهُ لَهُ بِرًّا." (تكوين 6:15) فمتى كان هذا الإيمان وذلك الحسبان؟ عن هذا السؤال يجيبنا الرسول بولس: "أَفَهذَا التَّطْوِيبُ هُوَ عَلَى الْخِتَانِ فَقَطْ أَمْ عَلَى الْغُرْلَةِ أَيْضًا؟ لأَنَّنَا نَقُولُ: إِنَّهُ حُسِبَ لإِبْرَاهِيمَ الإِيمَانُ بِرًّا. فَكَيْفَ حُسِبَ؟ أَوَهُوَ فِي الْخِتَانِ أَمْ فِي الْغُرْلَةِ؟ لَيْسَ فِي الْخِتَانِ، بَلْ فِي الْغُرْلَةِ!" (رومية 9:4-10) كان الختان – بداية بإبراهيم – هو علامة العهد بين الرب وبين شعبه في القديم. إلا أن إبراهيم تبرّر قبل هذا الختان بما يقرب من أربعة عشر عامًا. صار فيما بعد مصطلح "الغرلة" يشير إلى الأمم، وفي هذا دليل آخر على أن إبراهيم تبرّر وهو أممي. القصد الإلهي من هذا "لِيَكُونَ أَبًا لِجَمِيعِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ وَهُمْ فِي الْغُرْلَةِ، كَيْ يُحْسَبَ لَهُمْ أَيْضًا الْبِرُّ." (رومية 11:4)
وهكذا يظهر إبراهيم كعلامة مبكرة مضيئة بارزة على طريق تعاملات النعمة الإلهية واختياره للأمم.
ملكي صادق: علامة أخرى مضيئة على طريق اختيار الأمم، وبسبب قلّة ما ورد عن ملكي صادق في الكتاب المقدس، واتَّسام هذا القليل بالغموض أحيانًا، كثرت الآراء عن حقيقة هذه الشخصية، وهل هو أعلى شأنًا من البشر العاديّين؟ حيث اعتبرهُ البعض الروح القدس، أو واحدًا من ظهورات المسيح في العهد القديم، أو ملاكًا في شبه إنسان. واعتبرهُ اليهود أنه سام بن نوح. كل هذه الآراء ليس لها ما يسندها تاريخيًّا أو كتابيًّا.
ملكي صادق هو شخصية حقيقيّة بحسب ما ورد عنه تاريخيًا في تكوين 14، حيث تقابل مع إبراهيم بعد انتصاره في حربه مع كدرلعومر والملوك الذين معه. هناك قدّم له إبراهيم عُشرًا من كل شيء. وبارك ملكي صادق إبراهيم (تكوين 17:14-20)، ثم كُتِبَ عنه بروح النبوة في (مزمور 4:110) باعتباره رمزًا في كهنوته لرئيس الكهنة الأعظم، الرب يسوع المسيح.
هذا ما نتحقّقه مما ورد عنه في عبرانيين 6:5؛ 1:7-10 باعتبار أن ملكي صادق أعظم من إبراهيم، وبالتالي أعظم من كهنوت لاوي الخارج من نسل إبراهيم. وهكذا يكون كهنوت المسيح أعظم من كهنوت لاوي.
نعود إلى أصل ملكي صادق، وهذا ما يهمنا أكثر هنا: بحسب شهادة المؤرخ اليهودي الشهير يوسيفوس، فإن ملكي صادق هو واحد من ملوك كنعان، والتي كانت تشمل ساليم (أورشليم). هو بذلك من الكنعانيين الذين هم أبناء كنعان بن حام، والذي أتت عليه اللعنة التي نطق بها نوح في الوقت الذي بارك سام ويافث: "مَلْعُونٌ كَنْعَانُ! عَبْدَ الْعَبِيدِ يَكُونُ لإِخْوَتِهِ." وَقَالَ: "مُبَارَكٌ الرَّبُّ إِلهُ سَامٍ. وَلْيَكُنْ كَنْعَانُ عَبْدًا لَهُمْ. لِيَفْتَحِ اللهُ لِيَافَثَ فَيَسْكُنَ فِي مَسَاكِنِ سَامٍ، وَلْيَكُنْ كَنْعَانُ عَبْدًا لَهُمْ." (تكوين 25:9-27)
هنا نقف مندهشين أمام نعمة الله الغنية، فمن هذا الشعب الملعون يُخرج الرب هذا الملك المبارك والكاهن الفريد. أصبح ملكي صادق في كهنوته رمزًا حقيقيًّا لشخص ربّنا يسوع المسيح، وكأننا من خلال ملكي صادق نسمع صدىً مبكِّرًا للسرّ الذي كان مخفيًّا، السرّ العجيب، سرّ الأمم، بأن "الأمم شركاء في الميراث والجسد، ونوال موعده في المسيح بالإنجيل." (أفسس 6:3)
وللحديث بقية