حين كتب الرسول بولس "عظيم هو سرّ التقوى: الله ظهر في الجسد،
تبرّر في الروح، تراءى لملائكة، كُرِزَ به بين الأمم، أُومن به في العالم، رُفع في المجد." (1تيموثاوس 16:3) كان في الواقع يُعلن عن أعظم سرّ في المسيحية:
"الله ظهر في الجسد"، أي الله في صورة الإنسان. وحين نحاول تفصيل هذه الآية الذهبية نرى في المسيح ناحيتين: الناحية الأولى ناحية لاهوته وهي تظهر في كلمة "الله".
والثانية ناحية ناسوته وهي تظهر في الكلمات "ظهر في الجسد". أو كما عبّر يوحنا البشير في غرّة إنجيله قائلًا: "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله... والكلمة صار جسدًا وحلّ بيننا، ورأينا مجده، مجدًا كما لوحيدٍ من الآب، مملوءًا نعمة وحقًّا". (يوحنا 1:1 و14)
ولا يجب أن يغرب عن بالنا ونحن ندرس هذا الموضوع الخطير، أن الكتاب المقدس يقدِّم لنا الله المثلّث الأقانيم، ونرى هذا واضحًا في كثير من أجزاء الكتاب المقدس. ففي إنجيل لوقا نرى منظرًا مجسِّمًا للثالوث الأقدس إذ نقرأ هذه الكلمات: "ولما اعتمد جميع الشعب اعتمد يسوع أيضًا. وإذ كان يصلّي انفتحت السماء، ونزل عليه الروح القدس بهيئةٍ جسميّة مثل حمامة. وكان صوتٌ من السماء قائلًا: [أنت ابْني الحبيب، بك سُرِرت]". (لوقا 21:3-22)
وحواسنا تقول لنا أننا نرى الابن الحبيب في الماء، ونرى الروح القدس بهيئة جسميّة مثل حمامة، ونسمع صوت الآب متكلّمًا من السماء قائلًا: "أنت ابني الحبيب، بِكَ سُرِرت." والمنظر السماوي واضح لكلّ ذي عينين، ومسموع لكلّ ذي أذنين، وهو يتّفق تمامًا مع وصيّة المسيح، - له المجد، – لتلاميذه، "فاذْهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس". (متى 19:28) وكلمة "باسم" في هذه الآية تؤكِّد لنا "الوحدانية في اللاهوت" مع تعدّد الأقانيم. فلم يقلْ السيد - له المجد – "بأسماء" بل "باسم" واحد فقط هو اسم الآب والابن والروح القدس... الإله الذي نعبده ونسجد له.
وحين نتكلّم عن تجسُّد المسيح، نحن نتكلّم عن تجسُّد الابن أي الكلمة الأقنوم الثاني. ويجب أن نقرّر في عقولنا الحقيقة التي تشرح الآيات الأولى في إنجيل يوحنا:
"في البدء كان الكلمة" أيّ، إن الكلمة أزليّ.
"والكلمة كان عند الله"، أيّ إن الابن متميَّز عن الله الآب.
"وكان الكلمة الله" أي إن شخص الابن مساوٍ لشخص الآب في الجوهر. كما يكتب لنا كاتب الرسالة إلى العبرانيين، "الله، بعد ما كلّم الآباء بالأنبياء قديمًا، بأنواعٍ وطرقٍ كثيرة، كلّمنا في هذه الأيّام الأخيرة في ابنه... الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ، بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيرًا لِخَطَايَانَا، جَلَسَ فِي يَمِينِ الْعَظَمَةِ فِي الأَعَالِي". (عبرانيين 1:1-3)
وعن هذا الابن المبارك يقول الكاتب الملهم بالروح القدس، "وَأَمَّا عَنْ الابْنِ: «كُرْسِيُّكَ يَا أَللهُ إِلَى دَهْرِ الدُّهُورِ. قَضِيبُ اسْتِقَامَةٍ قَضِيبُ مُلْكِكَ... أَنْتَ يَا رَبُّ فِي الْبَدْءِ أَسَّسْتَ الأَرْضَ، وَالسَّمَاوَاتُ هِيَ عَمَلُ يَدَيْكَ. هِيَ تَبِيدُ وَلكِنْ أَنْتَ تَبْقَى، وَكُلُّهَا كَثَوْبٍ تَبْلَى، وَكَرِدَاءٍ تَطْوِيهَا فَتَتَغَيَّرُ. وَلكِنْ أَنْتَ أَنْتَ، وَسِنُوكَ لَنْ تَفْنَى". (عبرانيين 8:1-12)
فالابن إذن وهو الأزليّ المساوي للآب في الجوهر تجسّد في ملء الزمان، ليُعلن لنا "الله" في شخصه الكريم كما يقول يوحنا الرسول، "اَللهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ". (يوحنا 18:1) وكما يقول بولس الرسول، "لأَنَّ اللهَ الَّذِي قَالَ: «أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ»، هُوَ الَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ اللهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ". (2كورنثوس 6:4) ويسوع المسيح هو "صورة الله غير المنظور". (كولوسي 15:1)
لقد "خلق الله الإنسان على صورته" (تكوين 27:1) أما يسوع المسيح فليس على صورة الله، بل "هو صورة الله غير المنظور... وهو "بهاء مجده ورسم جوهره".
هو الله الابن في لاهوته. وهو الإنسان الكامل في ناسوته. ومعرفتنا بأن ابن الله قد صار إنسانًا تحلّ لنا الكثير من صعوبات الكتاب المقدس التي تعترض الكثيرين. فيسوع المسيح قد صار إنسانًا كاملاً ليخبرنا عن الآب، ويُعلن لنا ذاته العليّة، وحبّ قلبه الكبير الحنّان من ناحية البشرية. وهو قد صار إنسانًا كاملاً ليأخذ مكاننا أمام الله ويوفي للعدالة حقّها المطلوب لأن "أجرة الخطية هي موت"، و"النفس التي تخطئ هي تموت."
لقد ظهر يسوع المسيح بالناحيتين، الإلهية والإنسانية. فباعتباره "كلمة الله" و "ابن الله الحيّ" أقام الموتى، وطهّر البرص، وخلّص الخطاة، وغفر الخطايا، وأسكت أمواج البحر الهائجة المزبدة، وأطعم الجماهير العديدة بخمسة أرغفة وسمكتين.
وباعتباره الإنسان الكامل... ممثّل الإنسانية رضي بأن يُضرب من العبيد. وقَبِل طوعًا واختيارًا أن يُصلب على الصليب... وتعب من السفر وجلس عند البئر. "... أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ". (فيلبي 7:2-8) وفي مركز الاتضاع هذا الذي ارتضاه طوعًا واختيارًا قال: "لأن أبي أعظم مني". (يوحنا 28:14) والمقارنة هنا ليست بينه وبين الآب في طبيعته فهما فيها متساويان، ولا في جوهره، فهو بهاء مجد الله ورسم جوهره. (عبرانيين 3:1) ولا في مقامه فقد سبق أن قال، "من لا يُكرم الابن لا يكرم الآب الذي أرسله". (يوحنا 23:5) لكن المسيح قارن بين ذاته في حالة تجسّده إذ أخذ صورة عبد، ووُضِع بذلك قليلاً عن الملائكة، فكان لا بدّ أن يقول عن نفسه وهو في حالة الاتضاع والتّجسّد "أبي أعظم منّي". وحين رفعوه على الصليب نيابة عن البشرية الساقطة صرخ وهو معلّق فوق الجلجثة قائلاً: "إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟" (متى 46:27) فهو بهذه الصرخة الإنسانية يريد أن يلفت أنظارنا نحن البشر إلى أنه قد تحمّل هول العذاب من أجل خطايانا، وأن الآب قد تركه على الصليب وحجب وجهه عنه ليذوق الموت لأجل كلّ واحد، مع أنه قال مرة في حديث سابق "... أنا لست وحدي لأن الآب معي". (يوحنا 32:16) لكنه هنا فوق الصليب يمثّل الناس الساقطين، ويحمل خطايا الآثمين، تركه الآب ليحمل الغضب الإلهي كعقاب لخطايا البشرية المجرمة، لكي نصير نحن برّ الله فيه. فصرخته المعذَّبة هي صرخة البشرية الخاطئة التي تستحقّ أن يتركها الله لفرط شرّها وإثمها.
أجل، فهو وحده سرّ التقوى الذي تبرّر في الروح، إذ أعلن الروح القدس برّه الإلهي، وبنويّته الأزليّة كما يقول الرسول بولس "وتعيّن بقوّة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات". (عبرانيين 4:4) بل أعلن الروح القدس برّه الإلهي بالآيات والمعجزات التي صنعها بواسطة رسله "شاهدًا الله معهم بآيات وعجائب وقوّات متنوّعة ومواهب الروح القدس حسب إرادته (عبرانيين 4:2) وهو بذاته الذي رُفع في المجد سوف يأتي ليأخذ خاصته إليه، كما قال لتلاميذه في حديثه الوداعي "لا تضطرب قلوبكم. أنتم تؤمنون بالله فآمنوا بي. فِي بَيْتِ أَبِي مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ، وَإِلاَّ فَإِنِّي كُنْتُ قَدْ قُلْتُ لَكُمْ. أَنَا أَمْضِي لأُعِدَّ لَكُمْ مَكَانًا، وَإِنْ مَضَيْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَكَانًا آتِي أَيْضًا وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ... أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي. لَوْ كُنْتُمْ قَدْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضًا... اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ". (يوحنا 1:14-9)
يقينًا أن يسوع المسيح هو الذي يهب الإنسان التقوى الحقيقيّة! هو الله الذي ظهر في الجسد. وهو الإنسان الثاني – رأس العائلة الجديدة – الرب من السماء.
وفي إنسانيته هو شفيعنا ووسيطنا الوحيد الذي قال عنه بولس الرسول: "لأنه يوجد إِلهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ: الإِنْسَانُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ". (1تيموثاوس 5:2) فنحن لا نحتاج إلى إنسان آخر يتوسّط بيننا وبين الله "إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله". (رومية 23:3)
ولسنا بحاجة إلى شفيع آخر يشفع فينا في الحضرة القدسية لأنه "وَإِنْ أَخْطَأَ أَحَدٌ فَلَنَا شَفِيعٌ عِنْدَ الآبِ، يَسُوعُ الْمَسِيحُ الْبَارُّ. وَهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا. لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَلْ لِخَطَايَا كُلِّ الْعَالَمِ أَيْضًا". (1يوحنا 1:2-2)
وليس لإنسانٍ عذر في عدم الاقتراب إلى شخص المسيح المحبّ فهو "الإنسان" يسوع المسيح؛ وهو بقوته مريح المتعبين. فليتنا كلنا نضمّ أصواتنا مع ذلك المرنّم:
لنا وسيط واحد ليس لنا سواه
يسوع فاد ماجد حياتنا رضاه