يوسف واحدٌ من الأعمدة البارزة التي تقوم عليها قصّة الميلاد،
إلّا أنّنا أهملنا وظلمنا هذا العمود الهامّ جدًّا. فنادرًا ما نتكلّم عنه، وما أقلّ ما كُتِب عنه. وحتى الفنّانين الذين يرسمون صورة للميلاد يستغنون عنه أحيانًا، وإن وضعوه في الصورة، فكأنّه فقط خلفيّة لصورة العذراء مريم والطفل يسوع. وربما السبب في ذلك أنه ظهر بجانب العذراء مريم التي نالت القسم الأكبر من الأضواء والإكرام إلى حدِّ العبادة عند البعض. وهكذا بدا يوسف صغيرًا وضوؤه باهتًا أمام العذراء التي أصبحت كوكبًا لامعًا في كلّ التاريخ. لكننا للإنصاف نراه اليوم، الرجل الذي كان وجوده ضروريًّا ولا بديل له، فهو رجل المهمّة الصعبة:
1- يوسف والتحدّي: تخيّل معي شابًا يهوديًّا - في مجتمع شرقيّ - يبدو أنّه متديِّن. فقد كان محافظًا على الطقوس اليهوديّة، إذ بعد أيام تطهير مريم، صعد معها إلى الهيكل لتقديم الطفل يسوع لله (لوقا 21:2-24)، وكان يذهب كلّ سنة إلى أورشليم في عيد الفصح (لوقا 41:2). كما كان يوسف من أسرة عريقة تمتدّ جذورها إلى الأسرة الملكيّة. لكن الغريب أنه كان فقيرًا جدًّا. تخيّل هذا الشاب يتابع أيام خطوبته لمريم منتظرًا أن تكتمل الفرحة بالزواج المبارك. أضف إلى هذا مكانة الخطبة في المجتمع اليهودي - تُعتبر الخطيبة بحكم الشريعة كالزوجة لها كامل الحقوق وعليها كلّ الواجبات (قارن تثنية 23:22-29). ولهذا خاطب الملاك يوسف بالقول: "لا تخَفْ أنْ تأخُذَ مَريَمَ امرأتَكَ" (متى 20:1)، مع أنها كانت فقط خطيبته. تخيّل هذا الشاب البارّ، يُفاجأ بأن خطيبته (أو امرأته) حُبلى! ما هو حُكم المجتمع؟ وما هو حُكم الضمير؟ وبماذا تقضي الشريعة؟ لا شكّ دارت علامات الاستفهام هذه وغيرها في عقل يوسف. فالأمر في ظاهره جريمة شرف متكاملة الأركان. كيف علم يوسف؟ هل أخبرته مريم بالأمر؟ لا نعلم. لكن الملاك أخبره بأن امرأته حُبلى! هل لاحظ أن بطنها تكبر فاكتشف حملها؟ ربّما، لكن الحقيقة الخطيرة التي تجسّدت أمامه أن مريم خطيبته "وُجِدَت حُبلى". لا شكّ، دخل يوسف مرحلة صراعٍ مرير، وكم طال أمد هذا الصراع؟ هل أسابيع أم شهور؟ لقد دخل في دوّامةٍ تُمزِّق نفسه البارّة. لقد امتلأ بالرهبة والفزع والخوف من الناس ومن الله أيضًا، فهو يعلم أن الفتاة التي تخون عهد الزيجة تُعامَل حسب الشريعة بدون أدنى رحمة أو تساهل، إلى حدِّ الموت رجمًا. وهو إذ يخاف الله لا يستطيع التراجع عن تطبيق هذا الحدّ عليها متى ثَبُتَ أن واقعة الخيانة قد تمَّت. هل كان يفكِّر هكذا؟ هل كان يصلّي إلى الله؟ لقد كان يوسف يواجه تحدِّيًا صعبًا جدًا.
2- يوسف والمواجهة: أقصد مواجهة التحدّي، وكيف تمّ ذلك؟ يوسف كشخصٍ بارّ لن يقبل بأيِّ حالٍ ما حدث. فأمامه طريق من ثلاثة للتخلُّص منها:
1- تطبيق حدّ الرجم عليها باعتبارها زانية.
2- الإخلاء العلني، والهدف التخلّص منها كلِّيَّةً باعتبارها زانية فتُعطى كتاب طلاق بما يحمل من تشهير وتشويه سمعتها.
3- الإخلاء السرّي، إذ يخليها سرًّا أمام اثنين من الشهود ويعتبر الإخلاء مبنيًّا على الكراهيّة، وتُحسب الثمرة التي تأتي من هذا الحبَل له وتُنسَب إليه.
وهذا هو الطريق الذي اختاره يوسف رغم صعوبته وما يحمل معه من ألمٍ ومسؤولية حاضرًا ومستقبلًا. وكان دافعه في هذا محبّته لمريم وحرصه على عدم تشويه سمعتها "فيوسفُ رَجُلُها إذ كانَ بارًّا، ولمْ يَشأْ أنْ يُشهِرَها، أرادَ تخليَتَها سِرًّا". (متى 19:1)
ولا شك يمثِّل الطريق الذي سلكه يوسف منهجًا لمواجهة التحدّيات. فما أكثر التحدّيات والمفاجآت التي تواجهنا بأمور غريبة وعجيبة، ونقف أمامها أحيانًا في مفترق طرق لا نعلم ماذا نفعل؟ إننا نحتاج إلى منهج يوسف، ومع أن الرب لم يترك يوسف ليُكمل منهجه، لكن ما استقرَّ عليه بنفسه يُعتبر نموذجًا للتصرُّف في مثل هذه الأزمات. فإذ كان يوسف بارًّا - أيّ يتمتّع بعلاقة حميمة مع الله - وكان تقيًّا حسب مذهبه وتديُّنه اليهوديّ، تسلَّح بالفكرِ البارّ، وتصرَّف كما يتصرّف الأبرار. كان يحبّ الرب ويخشاه، ويحبّ الآخرين ويحفظ لهم سمعتهم.
أراد يوسف تخلية العذراء مريم سرًّا، لكن للربّ رأيًا آخر:
3- يوسف والمهمّة المقدّسة
نام يوسف ذات ليلةٍ وهو متفكِّرٌ في هذه الأمور في التحدّي وكيفيّة مواجهته. نام وهو لا يعلم أن الله يدعوه لمهمةٍ مقدّسة ربّما اشتهاها أتقياء الشعب القديم، "ولكن فيما هو مُتَفَكِّرٌ في هذِهِ الأُمورِ، إذا مَلاكُ الرَّبِّ قد ظَهَرَ لهُ في حُلمٍ قائلًا: [يا يوسُفُ ابنَ داوُدَ، لا تخَفْ أنْ تأخُذَ مَريَمَ امرأتَكَ. لأنَّ الّذي حُبِلَ بهِ فيها هو مِنَ الرّوحِ القُدُسِ]". (متى 20:1) لقد كشف الرب ليوسف ما كان خفيًّا عليه بأن "سِرُّ الربّ لخائفيه وعهده لتعليمهم". (مزمور 14:25) وكما فعل الرب قديمًا مع جدّه إبراهيم، هكذا فعل مع يوسف، إذ قال الرب لإبراهيم: "هل أُخفي عن إبراهيمَ ما أنا فاعِلُهُ...؟" (تكوين 17:18) وهكذا لم يُخفِ الرب الأمر عن عبده يوسف. تُرى، كم كان تأثير كلمات الملاك على يوسف؟ هل نزعَتْ عنه المخاوف التي كانت تساوره؟ هل تجدّد في داخله اليقين أن مريم كانت وما زالت وستظلّ امرأته؟ هل أدرك يوسف أنه صار جزءًا من حدثٍ إلهيٍّ مجيد ينتظره الناس منذ أكثر من 750 سنة عندما أعلن إشعياء ذلك (إشعياء 14:7)؟ لا شكّ لقد هدأت نفس يوسف وتيقَّن أن مريم ما زالت الفتاة اليهوديّة المُتَّقية الرب والمتعبِّدة له، وإن الأمر بجملته مخطّط إلهيٍّ عظيم ليشمل كلّ البشريّة. إن هذا المولود القادم هو المخلِّص الحقيقيّ للعالم، وقد قَبِل يوسف الشرف أن يدعوه "يسوع"، أيّ المخلِّص لشعبه من خطاياهم (متى 21:1 و25).
نحن اليوم مدينون ليوسف بدوره في هذه المهمّة المقدّسة، والذي بدأ بالقول "وأخَذَ امرأتَهُ" (متى 24:1). لقد أراد قبلًا تخليتها سرًّا، لكنّه الآن فعل كما أمره الملاك أخذها إلى خاصّته وتعهّدها، وأدرك أنّه مسؤول ليس فقط لكونه زوجًا أو خطيبًا لها، بل كتكليفٍ من الله لحمايتها والجنين الذي تحمله.
هل كانت هذه مسؤوليّة أم مكافأة؟ هل هي عبء ثقيل أم بركة؟ هل هذه المهمّة كانت ليوسف واجبًا لا بدّ منه أم امتيازًا تمتّع به؟ لقد كانت كلّ هذه معًا. وبدأ يوسف مهمّته بقبول العذراء مريم وقبول حبلها بفرح، وأخذها في رحلة إلى بيت لحم من أجل أمور زمنيّة مرتبطة بالاكتتاب أو بالإحصاء. لكنّها بالأولى من أجل ترتيبات إلهيّة، لكي يولد يسوع هناك ويتمّ قول ميخا النبيّ: "أمّا أنتِ يا بَيتَ لَحمِ أفراتَةَ، وأنتِ صَغيرَةٌ أنْ تكوني بَينَ أُلوفِ يَهوذا، فمِنكِ يَخرُجُ لي الّذي يكونُ مُتَسَلِّطًا علَى إسرائيلَ، ومَخارِجُهُ منذُ القَديمِ، منذُ أيّامِ الأزَلِ". (ميخا 2:5) (قارن متى 2:2-6). وقام يوسف بعد ذلك برحلة شاقّة أخرى برفقة مريم والطفل يسوع من بيت لحم إلى مصر هربًا من هيرودس "وبَعدَما انصَرَفوا، إذا مَلاكُ الرَّبِّ قد ظَهَرَ ليوسُفَ في حُلمٍ قائلًا: [قُمْ وخُذِ الصَّبيَّ وأُمَّهُ واهرُبْ إلَى مِصرَ، وكُنْ هناكَ حتَّى أقولَ لكَ. لأنَّ هيرودُسَ مُزمِعٌ أنْ يَطلُبَ الصَّبيَّ ليُهلِكَهُ]. فقامَ وأخَذَ الصَّبيَّ وأُمَّهُ ليلًا وانصَرَفَ إلَى مِصرَ. وكانَ هناكَ إلَى وفاةِ هيرودُسَ. لكَيْ يتِمَّ ما قيلَ مِنَ الرَّبِّ بالنَّبيِّ القائلِ: [مِنْ مِصرَ دَعَوْتُ ابني]". (متى 13:2-15)
وعاد ملاك الرب ليخبر يوسف بعد موت هيرودس بالعودة إلى أرض إسرائيل (متى 19:2-21). وأوحى إليه في حلمٍ أن يذهب إلى نواحي الجليل هربًا من أرخيلاوس (متى 22:2). وكان يوسف ومريم حريصان على اصطحاب يسوع إلى الهيكل في كلّ عام في عيد الفصح، وكان معروفًا أن يوسف هو أبوه (قارن لوقا 41:2 و48).
لقد ارتبط اسم يسوع بيوسف في السجلّات الرومانيّة واليهوديّة وفي الحياة البيتيّة وفي الخدمات العامّة والخاصّة. لقد أكّد الروح القدس أن انتساب يسوع لسبط يهوذا ولبيت داود - وهذه ضرورة – كان من خلال يوسف (متى 1:1 و16). لقد كان يوسف مسؤولًا عن رعاية يسوع في طفولته وشبابه، وفي الغالب عمل يسوع معه في مهنة النجارة، وشارك في تصنيع الأبواب والأنيار، وظهر هذا في أقواله الخالدة:
"الحَقَّ الحَقَّ أقولُ لكُمْ: إنّي أنا بابُ الخِرافِ، أنا هو البابُ. إنْ دَخَلَ بي أحَدٌ فيَخلُصُ ويَدخُلُ ويَخرُجُ ويَجِدُ مَرعًى". (يوحنا 7:10 و9)
"اِحمِلوا نيري علَيكُمْ وتَعَلَّموا مِنّي، لأنّي وديعٌ ومُتَواضِعُ القَلبِ، فتجِدوا راحَةً لنُفوسِكُمْ. لأنَّ نيري هَيِّنٌ وحِملي خَفيفٌ". (متى 29:11-30)
لقد كان يوسف مسؤولًا عن رحلات يسوع في طفولته كما أشرنا، من الجليل إلى بيت لحم، ومن اليهودية إلى مصر، ومن مصر إلى الناصرة، وبالإجماع نقول من المذود إلى الصليب. لقد اختاره الله لمهمّة صعبة لكنها كانت مهمّة مقدّسة. وفي كلّ مرّة كان الرب يكلّفه بأمر من خلال الملاك، كان يفعل كما أمره ملاك الرب.
سيبقى يوسف نموذجًا ومثالًا رائعًا لكلّ إنسان يدعوه الله لعمل مشيئته مهما كانت التكلفة. فهل نفعل اليوم كما يأمرنا الرب، كما سلك يوسف؟