Voice of Preaching the Gospel

vopg

هناك على سطحِ تلك الأكَمَة التي تبعدُ ستّةَ أميالٍ جنوبي أورشليم في فلسطين،

تقع قريتي الصغيرة المتواضعة بيت لحم. ولا زلتُ أذكرُ إلى الآن كيف كنتُ ورفاقي نلعبُ هناك ونختبئ بين الشجيرات المزدانةِ بالاخضرار. وكانت قهقهاتُنا تملأُ المكان ونحن نسرحُ ونمرحُ في طبيعةٍ خلّابة تحيط بنا من كل حدْبٍ وصَوب. ولا عجبَ من جمالها فقد كان يحيطُ بقريتنا هذه أيضًا العديدُ من التلال التي تكسوها الأشجار المثمرة والنباتات الجميلة. هذا عدا عن مائها العذبِ الوفير والرقراق؟
كنّا نركض إلى بئرها المنعشِ لِنَعبَّ الماءَ البارد فنروي ظمأنا منه ويشفي غليلَ قلوبنا العطشى بعدَ يومٍ حافلٍ باللعب والركض. والمياه المتفجِّرة في تلالها كانت تسقي أراضيها فتظلُّ خصبةً خضراء. وأذكرُ ما قاله لي والدي مرّةً هنا في هذا الصَّدد كيف أنّ نبيَّنا الكبير الملك داود الذي وُلد هنا في بيتَ لحم، اشتاق أن يشربَ ماءً من بئرها العذب إذِ اعتادَ عليه حينما كان بعدُ صبيًّا صغيرًا يرعى غنمَ أبيه. وحين أتوه بالماء وهو في المغارة مطارَدًا من قِبَل أعدائه، لم يشأْ أن يشربَه بل سكبَه للربِّ الإله.
والآن، لماذا يا تُرى تداهمُني كلُّ هذه الذكريات فجأةً؟ وأنا ما زلتُ ابنَ البلدة المتواضعة وأعملُ فيها في الخان تحتَ يد معلِّمي مع شُلّةٍ من رفاقي؟ نعم، لأنَّني اليوم وبالذّات، سمعتُ حديثَ الخادمة مع معلِّمتها التي كانت تحثُّها على الاستعجال بتحضير ما يلزَمُ من أجل الزوجين اللَّذَين استقبلناهُما في حظيرة الخان لعدمِ وجودِ غرفٍ فارغة للمبيت. إذ جاءَ الكثيرونَ من المدن والقرى البعيدة لكي يسجِّلوا أسماءهم في سجلّات البلدة التي كانوا قد وُلِدوا فيها بحسبِ الأمر الصادر عن الحاكم الكبير كيرينيوس بهدف إحصاء الشعب. ولكنَّ الأمرَ الأكثرَ عجبًا من هذا، فهو أنَّ المرأة واسمُها مريم كانت على مشارفِ وضْعِ طفلها الأوّل وهي تعِبَةٌ ومُرهَقَة من عناءِ السفر على الدَّابة مع زوجها يوسف. فما شاركَتْني به الخادمة أثارَ فيَّ الفضول للتعرّف على هذه العائلة عن كثَب. لكن ما أن انقضتِ الليلةُ الأولى حتى سمعتُ صوتَ بكاء الطفل آتيًا من الحظيرة فأثار فيَّ مشاعرَ غريبة وحنانًا لا يوصَف. والأغربُ من هذا وذاك هو أنَّ الطفلَ المولود لم يكنْ له موضعٌ ينام فيه سوى مذودٍ حقير موضوعٍ هناكَ للبقر والغنم. وعلمتُ أنَّ أمَّه لفَّتْه وقمَّطتْهُ وأضجعتْه في هذا المذود الذي لم يكن مُعَدًّا لطفل صغير. أمَّا بهاءُ النور الذي حكَت لي عنه الخادمة الصاعدُ من ذلك المذود فكانَ مُبهرًا ولامعًا ملأ الحظيرة، حتى راح البقرُ والغنم يعبّرانِ عن استغرابِهما من وجوده بالخُواء والثُّغاء المستمرّ.
وما أنْ مضتْ أيام، حتى التقيتُ على باب الخان بمجموعةٍ من الرعاةِ البُسطاء يعبِّرون عن توقِهم لرؤيةِ الطفل المولود وهم يحملون حَمَلًا صغيرًا مقمّطًا كهديّة. استغربتُ من مجيئهم ولكنَّني عُدْتُ وأريتُهم الطريق إلى الحظيرة حيث النور لا يزالُ يملأ المكان. فدخلوا وسَجدوا ثم راحوا يتحدّثون مع مريم ويوسف عمَّا رأوه وشاهدوه في دُجى الليل وسكونِه الرهيب بينما هم يحرسون رعيَّتهم. وسمعتُ أحدهم يقول بكل هيبةٍ ووقار: "لقد خِفنا جدًّا وارتعبنا حين ظهرَ الملاكُ أوّلًا، والنورُ أضاءَ الأكَمة التي كنّا عليها، وسمعناه يُنبئنا بخبرٍ سارٍ لم نسمعْ مثلَه قطّ". وهنا قال آخَرُ مقاطعًا: "لكنَّه قال لنا: لا تخافوا، لأننا سقطْنا على وجوهنا من قوّة النور". وهنا عادَ الراعي الأوّل ليُكمل: "قال الملاك: [ها أنا أبشّركم بفرحٍ عظيمٍ يكون لجميع الشعب: أنه وُلد لكم اليوم في مدينة داود مخلصٌ هو المسيحُ الرب". وهنا قاطعه الراعي الثاني مؤكّدًا على كلامه وتابع: "أخبرنا أيضًا عن العلامة، أجل إذ قال: [وهذه لكُم العلامة تجدونَ طفلًا مقمَّطًا مضجعًا في مذود]. تمامًا كما نرى الآن". مشيرًا ببنانِه إلى المذود. ثم عاد الراعي الأول وقال: "لم يقفْ الأمرُ عند هذا الحدّ بل "ظهر بغتةً مع الملاك جمهورٌ من الجند السّماويّ مسبِّحين الله وقائلين: [المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرّة]". ثم عاد الراعي ومعه الحمَل ليُكمل: "هذه كانت رسالةَ السماء إلينا نحنُ الرعاة البسطاء. لذا أسرعنا في المجيء إلى بيتَ لحم للتحقُّق من هذا الخبر السار. وها نحن الآن نقدّم هذا الحمَل الصغير للطفل المميّز الذي قال عنه الملاك بأنَّه المخلّصُ مسيحُ الرب. وها هو المذود الذي يضطجع فيه الآن هو العلامة التي قال عنها الملاك. نعم، قلبُنا مملوء بالفرح إذ رأينا بأمِّ أعيننا أنَّه بالحقّ وُلد الطفلُ الموعود منذُ القديم في مدينة نبيِّنا داود وليسَ كأيِّ طفل. لهذا فأنا أرى بهاءَ الله ومجدَه ينبعثانِ من وجهه". أما مريم ويوسف فكانا ينصُتان وهما صامتان بكلِّ انتباه إلى حديث الرعاة وهما يُريِان حماسَهم وشغفَهم الكبيرَيْن عند رؤية الطفل يسوع. وكانتْ مريم تحفظُ كلَّ ما قيلَ لها عنهُ متفكّرةً به في قلبها. ليس الآن فقط، بل منذُ أنْ ظهرَ لها الملاك جبرائيل وبشَّرها بولادته منها إذ قال لها: "الروحُ القدسُ يحِلُّ عليكِ، وقوّةُ العليِّ تظلِّلُكِ، فلذلك أيضًا القدّوس المَوْلودُ منكِ يُدعى ابنَ الله". (لوقا 35:1)
تركتُ بابَ الحظيرة أمَّا ما سمعتُه عن هذا الطفل العجيب فلم يتركني، بلِ اخترقَ إلى أعماق قلبي. أيُعقل أن يكونَ هذا المولود هو ابنُ الله؟ هو المخلص كما قال الملاك للرعاة؟ ورحتُ فيما بعد أفتِّشُ في الكتب المقدسة علِّي أجدُ تلكَ المواعيد التي كُتبت عنه. وإذا بي أقعُ على هذه النبوة وعن بيتَ لحم بالذات فقرأتُ: "أمَّا أنتِ يا بيتَ لحم أفراتَةَ، وأنتِ صغيرةٌ أن تكوني بينَ ألوفِ يهوذا، فمنكِ يخرجُ لي الذي يكونُ متسلِّطًا على إسرائيل، ومخارجُه منذُ القديم، منذُ أيام الأزل." (ميخا 5: 2)

التوقيع: خادم الخان

أجل، في بيتَ لحم، وتعني بيتَ الخبز، هذه التي زُرْتُها وزوجي منذُ ما يقاربُ الثلاثةَ عقودٍ من الزمن. فتركتْ آثارَها في حنايانا. وأحسسْنا بالخُشوع والرَّهبة حين قيلَ لنا: "هنا مكانُ ولادةِ الطفل يسوع". فعلى الرغم من صغرِ المدينة إلَّا أنَّها أضحتِ العظيمة في شهرتها بولادة المخلص الموعود به في نبوءات العهد القديم. وكتبَ بعضُ الزائرين كتاباتٍ جميلة ومنهم أحدُ القساوسة الأمريكيّين ويُدعى فيليب بروكس. هذا زارها في العام 1868 ونظَم هذه الكلمات النورانية بعد أن تركت زيارته لكنيسة المهد أثرًا كبيرًا في نفسه. على أمل أن يرنّمها الأطفال في كنيسته في فيلادلفيا حيثُ كان راعيًا فيها. فأتتْ هذه الأبيات الشعريّة لتحكي قصة الميلاد تحت عنوان: O little town of Bethlehem. وطلب من المسؤول عن مدارس الأحد في الكنيسة Louis Render أن يضع لها لحنًا مناسبًا. وقد تُرجمت هذه الترنيمة إلى العديد من اللغات منها العربية لناظِمها الأديب اللبناني (أنيس المقدسي). فجاءت الترنيمة في روحها ومضمونها قريبةً إلى الترنيمة الأصليّة. تقول:


1) على الرُّبى في بيتَ لحمٍ كوكبٌ أنار،
يكسو الدُّجى بهاؤه ثوبًا من الأنوار
هل تعرفُ البرايا أنَّ الضّيا المنير
يعكسُ أنوارَ الفدى، من مذودٍ حقير

2) في بيتَ لحم ٍللورى، قد أشرقَ السلام،
يحمِلُه ميلادُه في حالِك الظلام.
فَلْنبتهجْ جميعًا بمولدِ القدير
ولْيسجُدِ الكونُ لِمَن، في المذودِ الحقير.

3) إنْ عصفَتْ علينا عواصفُ الشقا،
وعمَّتِ الرَّزايا وانقطع الرجا،
فكوكبُ الأعالي بوجهِه البشير،
يبدو لنا سناهُ في المذودِ الحقير.

4) فوقَ الرُّبى انظروهُ يشيرُ للخلود،
يقولُ قد أتاكُمْ محرِّرُ الوجود.
قدرتُه تجلَّتْ وحبُّه الشهير
ومجدُه وطُهْرُه، في المذوِدِ الحقير.


(عن قصة ترنيمة – المركز اللوثري، لبنان)


واليوم يا صديقي، أتساءلُ وأقول حتى ونحن نعيشُ الآن في عواصف الشقاء، كما قال الكاتب، حيثُ تحُلُّ الرَّزايا والمصائب والحروب في شرقنا الحبيب، فإنَّ الربَّ يسوع كوكبَ الصبح المنير لمْ ولنْ يَخبو نورُه لأنَّه هو النور الحقيقي الآتي إلى هذا العالم. وأردِّدُ مع المرنِّم:


"في يأسي أحنيتُ رأسي
لا يوجد سلامٌ على الأرض.
قلتُ في سرّي. فالكراهيةُ مسيطرةٌ
وسخِرْتُ من الأغنية المكرَّرة
وعلى الأرضِ السلام وبالناس المسرّة.
بعدَها سمِعْتُ موسيقى الأجراس تصدَحُ في كلِّ مكان.
كلَّا، فاللهُ ليسَ بميت، وليسَ هو بنائم.
ولسوفَ يَدحضُ الباطلَ وسينتصِرُ الحقُّ.
وعلى الأرضِ السلام، وبالناسِ المسرَّة."
(مترجمة بتصرّف)

المجموعة: كانون الأول (ديسمبر) 2024

logo

دورة مجانية للدروس بالمراسلة

فرصة نادرة تمكنك من دراسة حياة السيد المسيح، ودراسة حياة ورسائل بولس الرسول. عندما تنتهي من هاتين الدراستين تكون قد أكملت دراسة معظم أسفار العهد الجديد. تتألف كل سلسلة من ثلاثين درسًا. تُمنح في نهاية كل منها شهادة خاصة. للمباشرة بالدراسة، أضغط على خانة الاشتراك واملأ البيانات. 

صوت الكرازة بالإنجيل

Voice of Preaching the Gospel
PO Box 15013
Colorado Springs, CO 80935
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Fax & Tel: (719) 574-6075

عدد الزوار حاليا

377 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

إحصاءات

عدد الزيارات
11503675