تتوالى السنون ويتغيّرُ عدّادُها في نهايةِ كلِّ عامٍ، ويُضافُ رقمٌ على رزنامةِ التّاريخ، ومع دورانها
كلُّ شيءٍ من حولنا يتغيّر. ارجعْ معي عشرينَ عامًا إلى الوراء ولنَقُل إلى بداية الألفية الثالثة، ودقّق في أمورٍ كثيرة كصورتِك وصحّتِك، وشكل بيتِكَ، وطريقة تفكيرِك وأحلامك وسعيك وحصادك، كل شيءٍ من حولنا تغيّرَ ولم يبق كما هو.
لكن لو رفعتَ عينَيكَ وقلبكَ معي إلى من هو فوق الشمس، وعدنا إلى الوراء مئات بل آلاف السّنين، سنجده بلا تغيير، وقد أفادنا الرسول يعقوب عنه قائلًا: "كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هِيَ مِنْ فَوْقُ، نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِي الأَنْوَارِ، الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلاَ ظِلُّ دَوَرَانٍ". (يعقوب 17:1) ويقارنُ كاتب الرسالة إلى العبرانيين بين تغيُّر الأشياء المتزعزعة وثبات غير المتزعزعة، ويقولُ إننا قابلون ملكوتًا ثابتًا، وهذا الثبات هو مقارنةً بكلِّ الأمور المتزعزعة حولنا، وهو حتمًا سيقودنا إلى عبادةٍ وشكرٍ وخضوع وتقوى. هذا الملكوت ثابتٌ لأنه من شخصٍ ثابتٍ جديرٍ بالثقة، ويعمل وسط عالمٍ متغيِّرٍ لكنّه يقودنا ويصل بنا إلى الاقتراب من الثبات:
(لا يكون لملكه نهاية) بعكس كل ملوك الأرض.
(أنت كاهنٌ إلى الأبد) كهنوتهُ أبدّيٌ على رتبة ملكي صادق، بعكس كل رؤساء الكهنة الأرضيين الذين أبطلَ الموتُ كهنوتَهم.
"السماء والأرض تزولان ولكنّ كلامي لا يزول." وصاياه ثابتة ولا تتغير بعكس شريعة مادي وفارس التي طوتها السنون وأضاعتها.
وهنا لا بدَّ من القول صديقي القارئ: أما هو حريٌّ بنا أن نقيسَ حياتنا وتصرفاتنا وردود أفعالنا على شخصٍ ثابتٍ ودستورٍ ثابتٍ لنتجنّب الوقوع في الخطأ أو الندامة، ومَن ثابتٌ كيسوعَ ومن كلمته باقيةٌ إلى الأبد ككلمة القدير. مع تسارع الظروف والتغيير حولنا وفينا، ارفع أنظارك في بدايةِ عامٍ جديدٍ إلى مَن هو ثابتٌ وليكن هو وحدَهُ مقياسُ حياتِنا، واسمح لي أن أعطيكَ هذا المثال: إذا كنتَ تقود سيارتكَ مثلًا، ووقفت أثناء الضوء الأحمر لإشارةِ المرور، فأنتَ تلقائيًا ستُبقي قدمك تضغط بعض الشيء على الفراملِ، وربما يسرح نظرُكَ وفكرُكَ بعيدًا عن الزجاج الأمامي لأنك مطمئنٌ أن سيارتَكَ ثابتةٌ، وفجأةً بعدَ لحظاتٍ قد تظنُّ بأن سيارتَكَ تتحرّك وحينها ستدوسُ قدمُكَ على الفرامل بقوةٍ أكبر، ولكنّك حينما ترفع نظركَ ستجد أن سيارتك ثابتة والسيارة المجاورة لك هي التي تحركت قليلًا؛ ماذا أقصدُ؟ عندما قارنتَ سيارتكَ القابلة للحركة بشيءٍ متحركٍ وغيرَ ثابتٍ وصلتَ غالبًا إلى نتيجةٍ خاطئةٍ وبعدها استدركتَ خطأكَ، ولو كنتَ قد قارنتَ سيارتكَ القابلة للحركة بشيءٍ ثابتٍ (كالإشارة المروريّة مثلًا) فلن تخطئ حينها وستكون تقديراتك صحيحة. المتغيّر يا عزيزي هو ظلٌّ لحقيقةٍ قادمة، وهو رمزٌ ليس أكثرَ لواقعٍ ثابتٍ سيأتي فيما بعد: كانَ خروفُ الفصحِ رمزًا لحمل الله الآتي، وكانت الأقداسُ الأرضيّةُ رمزًا لأقداس السماء، وأورشليمُ دلالةٌ على المدينة التي صانعُها وبارئُها الله، وحينما جاء الكاملُ وقال "قد أُكمِلَ" انشقَّ الحجابُ، وأُبطِلت ذبيحةُ الخراف، وصارَ هو فصحُنا. والخلاصة: ليس ما نراهُ وما نلمسُه وما نعاينه هنا هو بالضرورة الحقيقة الثابتة، سنختبر الحقيقة الثابتة فقط في محضره ومعه في السماء. ويا للعجب! يخبرُنا سفر الجامعة عن الموضوع قبل آلاف السنين ويقول: "صَنَعَ الْكُلَّ حَسَنًا فِي وَقْتِهِ، وَأَيْضًا جَعَلَ الأَبَدِيَّةَ فِي قَلْبِهِمِ، الَّتِي بِلاَهَا لاَ يُدْرِكُ الإِنْسَانُ الْعَمَلَ الَّذِي يَعْمَلُهُ اللهُ مِنَ الْبِدَايَةِ إِلَى النِّهَايَةِ". (الجامعة 11:3) لقد جعلَ اللهُ الأبديّةَ في قلب الإنسان، وهذا تفسيرٌ حقيقيّ لجوع الإنسان للعبادة، ففي قلبه فراغٌ لا يملأه كلُّ ما هو متغيِّرٌ ولا كلُّ ما هو فانٍ، والدليل أن سليمان نفسه حاولَ أن يُشبعَ قلبَهُ وجسدَهُ وفكرَهُ بأمورٍ دنيويةٍ كثيرة (جامعة 1:2-١١) ويذكرُ لنا أمورًا عديدةً ظنَّ أن له فيها شبعًا، لكنّه استنتج في الآخر وبختم الروح القدس أنّ الكلَّ باطلٌ وقبضُ الريح. كيفَ تلهثُ قلوبنا إلى ما هو متغيّر وفانٍ؟ كيف نظنُّ أن نُشبع جوعَ القلبِ هذا بما هو تحتَ الشمس؟ لماذا نريد أن ننتظر سنينَ وسنين لنكتشف أنه باطلٌ وقبض الريح؟ ألم يُكتَب كلُّ ما كُتبَ لأجل تعليمنا؟! انظر معي إلى الثابت، واملأ قلبَكَ بهِ وبروحِهِ، واملأ ذهنَكَ بكلامِهِ ونواميسه، واملأ حياتكَ بنموذجهِ وأسلوب خطواته ومشيئته ولن تُضطرّ إلى أيّةِ مكابح استثنائية بل ستقترب أكثر من الثبات… ومن يسوعَ المسيح الذي هو هو أمسًا واليوم وإلى الأبد. له كلّ المجد!