يُعتبر التجسُّد من أركان الإيمان الأساسيّة في الفكر المسيحي.
فالتجسُّد يعني ببساطة أن ابن الله، الأقنوم الثاني في الثالوث الأقدس، اتّخذ جسدًا حقيقيًّا ليعيش في هذا العالم المادي ووسط شعبه. وقد أكَّد الرسول يوحنا هذه الحقيقة في إنجيله مشيرًا إلى يسوع المسيح، كلمة الله، حيث قال: "وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الْآبِ، مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا". (يوحنا 14:1)
أما بالنسبة لاعتراف المرء بهذه الحقيقة وأهميّة قبوله لها بالإيمان، يؤكّد يوحنا في رسالته الأولى قائلًا: "كُلُّ رُوحٍ يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْجَسَدِ فَهُوَ مِنَ اللَّهِ". (١ يوحنا 2:4) فكلّ شخص يرفض التجسُّد فهو ليس من الله، ممّا يشير إلى رفضه لحقيقة أن المسيح جاء كإنسانٍ حقيقيّ. وهذا الرفض يتضّمن عدم قبول عمله الفدائي، وقيامته، وأيضًا مجيئه الثاني.
إن رفض التجسُّد هو رفض لخطّة الله الكاملة للخلاص. فقد أعلن الله عن الابن المُتجسِّد في يوحنا 18:3 "مَن يُؤمِنْ بِهِ لا يُدان، وَمَنْ لا يُؤمِنْ قَدْ دِينَ لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِاسْمِ ابْنِ اللَّهِ الْوَحِيدِ." وهذا يشير إلى أن الإيمان بيسوع المسيح هو السبيل الوحيد للنجاة من دينونة الله.
فروعة التجسُّد تكمن في غرضه، كما أعلن الملاك لمريم بحسب إنجيل متى. فقد جاء المسيح في الجسد، من خلال الحبل العذراوي، كما هو مكتوب: لكي "يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ" (متى 21:1). هذا الإعلان الإلهيّ يوضِّح أن غرض التجسُّد لم يكن مجرّد ظهور الله في الجسد، بل كان له هدف أساسي ومركزي وهو الفداء. فالتجسُّد إذًا هو التعبير الأسمى عن محبّة الله ورحمته لنا في المسيح، حيث قدّم المسيح نفسه كفّارة عن خطايانا، لكي يكون لنا حياة أبدية معه (يوحنا 16:3). تلك الحياة هي حياة الله التي أنعم بها علينا وتسري في كياننا وتربطنا به بوصالٍ أبديّ.
من أجمل الأصحاحات التي تتحدّث عن تجسُّد المسيح هو فيلبي ٢. في بداية النص، يشير بولس إلى أهميّة الوحدة بين المؤمنين في كنيسة فيلبي. يوضّح أن هذه الوحدة تتحقّق عندما يهتمّ كلّ شخص في الكنيسة بمصلحة الآخرين وليس فقط بمصلحته الشخصيّة. هذا النوع من الاهتمام يتطلّب التواضع والإيثار. يدعو بولس المؤمنين إلى أن يكون لديهم نفس العقليّة التي لدى المسيح. هذا الفكر يتمثّل في التواضع والاتّضاع. يستشهد بولس بمثال المسيح الذي "أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ" (فيلبي 7:2)، وهو ما يعني أن المسيح تخلّى طوعًا عن حقوقه ومكانته السماويّة ليأتي إلى الأرض كإنسان.
هنا يوضّح النصّ أن "الإخلاء" لا يعني أن المسيح تخلّى عن طبيعته الإلهيّة. الله لا يمكن أن يتغيّر أو يتنازل عن لاهوته. بل يعني أن المسيح أضاف إلى طبيعته الإلهيّة طبيعة بشريّة، وأصبح إنسانًا كاملًا بجانب كونه إلهًا كاملًا. كما يشير النص إلى أن الطبيعتين، الإلهيّة والبشريّة، لم تمتزجا في المسيح بل بقيا متميّزتين في شخصٍ واحد. ولهذا يمكن أن نصف المسيح بأنه "الله - الإنسان"، وهو الشخص الذي جمع بين الطبيعة الإلهيّة والطبيعة البشريّة في كيان واحد. فعقيدة الإخلاء بغرض التجسُّد تشير إلى الاتّضاع العظيم للمسيح. بالرغم من كونه الله، اختار أن يصبح إنسانًا، وأن يعيش مثل البشر، بل وأكثر من ذلك، أطاع حتى الموت، موت الصليب. هذا يمثل أعلى درجات الاتّضاع والمحبّة. جاء المسيح إلى عالمٍ مليء بالخطيئة ليمنح الناس الحياة من خلال موته على الصليب. وتأكّد فداؤه بقيامته من بين الأموات، مما يثبت انتصاره على الموت والخطيئة.
عزيزي القارئ، تخيَّل معي أنك في أزمنةٍ قديمة، حيث تُضيء شموع الإيمان بين جدران مدينة فيلبي، وتستقبل كنيستك رسالةً مُقدّسةً من بعيد تحمل كلمات الرسول بولس التي تنبض بالحياة وتحمل في طيّاتها سرّ التجسّد العظيم. كيف يا ترى ستُغيِّر هذه الحقيقة مسار حياتك، وتنسج خيوطًا جديدةً من الحبّ والإخاء في نسيج علاقتك مع إخوتك في الجسد الواحد؟ لقد تنازل ابن الله عن أسمى مكانة ليأتي بيننا ويضع نفسه على خشبة الصليب، ليأتي بأبناء كثيرين إلى المجد. كما ورد في عبرانيين 10:2 "لأَنَّهُ كَانَ يَلِيقُ بِذَاكَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ الْكُلُّ وَبِهِ الْكُلُّ، وَهُوَ آتٍ بِأَبْنَاءٍ كَثِيرِينَ إِلَى الْمَجْدِ، أَنْ يُكَمِّلَ رَئِيسَ خَلَاصِهِمْ بِالآلَامِ." فيا لروعة هذا الاتّضاع الذي يُضيء دروب النفوس الضالّة بنور الفداء. فالمتواضع لا يسعى لمجده، ولا يبغي أنظار الناس، بل يبحث عن خير الآخرين، يسكب ذاته بفرحٍ حتى تفيض نفوسهم بالنعمة.
هذا هو درس التجسّد، وهكذا كان فكر المسيح، يدعونا بولس أن نحمله في قلوبنا، أن نعيش مثله، أن نكون مرآةً تعكس نور الرب في عالمٍ مليء بالظلام. ألا تشعر بروحك ترفرف حين تتأمّل في هذا الحبّ الإلهي؟ دع قلبك ينساب مع تيار النعمة، ودع فكرك يتجلّى بروح الاتّضاع. فتتحوّل حياتك إلى ترنيمة شكر، وسعيك إلى نغمٍ يُعْزَف على أوتار الحبِّ الإلهيِّ والعطاء. فالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا.