أين نجد الراحة والسلام في عالمٍ مضطربٍ مليءٍ بالآلام؟ وأين نجد طمأنينة النفس وسط عواصف البؤس واليأس؟
قادتْني هذه الأسئلة إلى مقاطع من الفصل الرابع من الرسالة إلى العبرانيين يتكلّم فيها عن كيفيّة الدخول إلى راحة الربّ التي فيها نستسلم كلّيًّا له ونختبر فيها سلامه وراحته. يقول الكاتب مسوقًا بالروح القدس مستشهدًا بداود، كان داود يتكلّم ويقول: "اليوم، إن سمعتم صوته فلا تقسّوا قلوبكم".
فلو كان يتكلَّم عن أرض كنعان التي أدخلَ إليها يشوع الشعبَ القديم واستطاع يشوع أن يريحَهم فيها فعلًا، لما تكلّم النبي داود - الذي أتى بعد يشوع بمئات السنين - عن يومٍ آخر، إذ تابع يقول: "لأنَّه لو كان يشوع قد أراحهم لما تكلَّم بعد ذلك عن يومٍ آخر. إذًا بقيتْ راحةٌ لشعب الله"! (8 و9) فإذًا يتكلَّم هنا عن راحة أخرى روحيّة، راحة النفس وسلام القلب. ويتابع ليقول: "لأنَّ الذي دخل راحته استراح هو أيضًا من أعماله، كما الله من أعماله." (ع 10) ففي اليوم السابع أي السبت استراح الله من أعماله. أي أننا لا ندخل هذه الراحة بأعمالنا نحن، بل بالإيمان بعمل المسيح الكامل على الصليب.
فما هي هذه الراحة وكيف ندخلها؟
يجيب: "فَلْنجتهدْ أن ندخل تلك الراحة، لئلّا يسقطَ أحدٌ في عبرة العصيان هذه عينها." (ع 11) أي نجتهد نحن مؤمني العهد الجديد لكي ندخل إلى هذه الراحة. لكن، أين هي؟
هي هذه المبنيَّة على مواعيد كلمة الله، لذا يقول: "لأنَّ كلمة الله حيّة وفعّالة وأمضى من كلِّ سيف ذي حدَّين، وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ، ومميِّزة أفكار القلب ونياته." (12:4)
وندخل إلى هذه الراحة بحسب وعد كلمة الله.
أين هي هذه الراحة؟ يقول عن هذا الموضع الروحي: "فإذ لنا رئيس كهنة عظيم قد اجتاز السماوات، يسوع ابنُ الله، فلنتمسَّك بالإقرار (أي بالإعلان بالإيمان). لأنْ ليس لنا رئيسُ كهنة غيرُ قادر أن يرثي لضعفاتنا، بل مجرَّبٌ في كلِّ شيء مثلنا، بلا خطيّة". (ع 14-15) أين كان يدخل رئيس الكهنة في القديم؟ كانت خيمة الاجتماع حيث محضر الله منقسمة إلى قسمين والحجابُ يفصِل بينهما هذا عدا عن الدار الخارجية طبعًا. القسم الأوّل يُدعى القدس حيث يدخل إليه الكهنة، أما القسم الداخلي فهو قدس الأقداس ويدخل إليه رئيس الكهنة وحدَه مرةً واحدة في السنة، بعد أن يغتسل ويتطهّر ليكفِّر عن خطاياه أوّلًا، ومن ثمَّ عن خطايا الشعب برشّ دم الذبيحة. وإذا لم يتقدّم إلى محضر الله بشكلٍ صحيح كان يموتُ موتًا. لكن هنا يتكلّم عن رئيس كهنة إلى الأبد، الأعلى والأسمى والأعظم يسوع المسيح ابن الله الذي اجتاز السماوات، وهو هناك يشفع بكلِّ شخص اختبر فداءه ويقدر أن يُدخِلَه إلى هذه الراحة الأبديّة إلى قدس الأقداس ويسمّيها هنا عرش النعمة. إذ يقول: "فلنتقّدم بثقة إلى عرش النعمة لكي ننال رحمة ونجد نعمةً عونًا في حينه." (16) وفي قدس الأقداس كان تابوتُ العهد ويرمز إلى عرش النعمة أي عرش الرب حيث المجدُ العظيم والنور البهي. ولا يدخله إلّا رئيس الكهنة. ويسوع يقدر أن يساعد كلّ مؤمن اختبر خلاص المسيح للدخول إلى عرش النعمة، في أيّ وقت عند الحاجة، بالصلاة، فيحصل على الرحمة ويجد النعمة عونًا في حينه. ويستطيع كل مؤمن اختبر خلاص المسيح أن يدخل إلى قدس الأقداس بدم يسوع المسيح الخروف الذي ذبح لأجلنا. لذا يقول أيضًا: "فإذ لنا أيُّها الإخوة ثقةٌ بالدخول إلى [الأقداس] بدم يسوع، طريقًا كرَّسه لنا حديثًا حيًّا، بالحجاب، أيْ جسده، وكاهنٌ عظيمٌ على بيت الله." (عبرانيين 19:10-21) لأنْ في الصليب شُقَّ حجابُ الهيكل، وكلُّ من اختبر عملَ الصليب في حياته فُتح الباب أمامه وصار قادرًا على الدخول إلى الأقداس.
والآن كيف ينبغي أن نأتي؟ يقول في الفصل العاشر: "لنتقدَّم بقلبٍ صادق في يقين الإيمان، مرشوشة قلوبنا (بدم المسيح) من ضمير شرير، ومغتسلة أجسادنا بماء نقي. لنتمسَّك بإقرار الرجاء راسخًا، لأن الذي وعد هو أمين". (عبرانيين 22:10-23)
كيف نأتي إذن؟
كان رئيس الكهنة في القديم يرشّ الدم على تابوت العهد عندما يدخل إلى قدس الأقداس. ونحن اليوم نأتي بقلب صادق ومرشوشة قلوبنا من ضمير شرير، ومغتسلة أجسادنا بماء نقيّ. أي حين نأتي إلى الأقداس علينا أوّلًا أن نعترف أمامه بكلِّ خطيّة ونطلب منه أن يطهّرنا بالتمام. قال يسوع: "[من آمن بي، كما قال الكتاب، تجري من بطنه أنهارُ ماءٍ حيٍّ]. قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه". (يوحنا 38:7-39أ) وكذلك "يقول الله: ... أسكب من روحي على كلّ بشَرٍ". (أعمال 17:2) هذه كلُّها صُوَرٌ لعمل الروح القدس الذي يغسلنا وينقّينا من خلال كلمة الله. والآن للدخول إلى هذه الراحة هناك ثلاثُ دَعَوات في كلمة الله.
أوّلًا- الراحة والدَّعواتُ الثلاث
أ- تعالَوْا: يقول الرب يسوع في دعوته العامة لكلِّ الناس: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثَّقيلي الأحمال، وأنا أريحكم". (متى 11: 28) وأسأل هنا: مَن منا مرتاح؟ فعلى الرغم من وسائل الراحة التي نتمتّع بها في هذا العصر، لكن هل نحن مرتاحون حقًّا؟ حين انقطعت الكهرباء من جرّاء الإعصار الأخير هنا في هيوستن، انزعجنا جدًا واضطربنا ولم نحتمل الحرارة والرطوبة. فعلًا لا راحةَ بدون الرب. إذ يقول: "فإذ قد تبَّررنا بالإيمان لنا سلامٌ مع الله بربِّنا يسوع المسيح". (رومية 1:5) إذن نتمتّع بالسلام والراحة عند التبرير أمام الله. لأنَّ حِمْلَ الخطية ثقيلٌ. يقول جون بنيان في كتابه (سياحة المسيحي) بأنَّ حِمْلًا كبيرًا نزَل عن كاهله حين اختبرَ المسيح مخلّصًا شخصيًّا له. وكذلك يشاركه الكثيرون في هذا الاختبار إذ يشعرون بأنّ عبئًا كبيرًا تدحرج عن أكتافهم حين آمنوا. ألم يقلْ الرب هذا الوعد لكلّ الذين اغتسلوا بدم يسوع: "ولا أعود أذكرُ خطاياهم وتعدّياتهم فيما بعد". (عبرانيين 12:8)
فحينَ يقدِّم شخصٌ ما السيرةَ الذاتية من أجل وظيفة ما، نجد المسؤولين يعاينون بتدقيق السنوات التي عمِل فيها وفيما إذا كان هناك فجوةٌ بينها. وعندها يسألونه: هل هناك تفسير لذلك؟ وجلُّ همّهم بالطبع أن يعرفوا ما إذا كان قد أقدَم هذا الشخص على كسرِ القانون أو قام بأيّة جُنحة أدخلتْه السجن مثلًا! لكن هنا ومع الرب يسوع كلُّ شيء قد أصبح نظيفًا وطاهرًا. فقاضي القضاة نفسه قد عفا عنّا. ما أحلى قول أغسطينوس: "أيها الرب الإله خلقتَنا لذاتك ونحن نفوسنا مضطربة تائهة وهائمة على وجهها إلى أن تجدَ راحتها فيك". إذًا بقيت راحة لشعب الله، وهي الراحة الأبدية. فَلْنجتهد أن ندخل راحته وهذه تبدأ بالخلاص. يقول في سفر الرؤيا: "... الذي أحبَّنا، وقد غسَّلنا من خطايانا بدمه، وجعلنا ملوكًا وكهنة لله أبيه..." (5:1ب-6أ). رفع من شأنك. بالحق، لقد صيَّرك - يا أخي - ملكُ الملوك ملكًا وكاهنًا لذا تقدر أن تدخل إلى القدس حيث يدخل الكهنة. لكنْ حذارِ من الارتفاع! (يتبع)
________
__________________
صلاة للعام الجديد
يا إلهي المحب، أشكرك لأنك أعنتني لأَصِل إلى ما بلغته في الحياة. أنا أعلم أن الطريق لا زال طويلاً أمامي في مستقبلي. ولكنني سعيد بما وصلت إليه حتى في هذه المرحلة من حياتي... أذكر ما كنت عليه في العام الماضي، وما كنت عليه في السنين الطوال، فلا أكاد أصدق كيف استمتعت وتعلّمت ونموت وضحكت وبكيت!
وفي نهاية عام 2024، أشكرك على الأشخاص الرائعين الذين أرسلتهم لي، وعلى كل المحبة التي تبادلناها، وعلى الفرص العديدة التي منحتها لأمارس إيماني.
أشكرك على كل ما تُعطيني إيّاه كلّ يوم لأستمرّ في رحلة هذه الحياة. إني أشكرك لوجودي على هذه الأرض، وإني أعرف أنه لا زالت أمامي الفرصة لتبادل المحبة والمرح والنموّ النفسي والروحي. ساعدني حتى أتمم إرادتك في حياتي، إني أتّكل عليك وأثق بك وبمواعيدك بقوة الروح القدس وباسم الرب يسوع، آمين.