بعد الحرب العالميّة الثانية، كانت الأم تُمسك كلَّ ليلةٍ بيد ولدها وتأخذه ليتأمّل في صورة أبيه
قبل أن يخلد إلى النوم. وكم كان الصبيّ يتمنّى لو عرف أباه، وذات يوم قال لأمّه: "كم أتمنى يا أمّي لو خرج والدي من إطار هذه الصورة وزارني!"
وهذا بالضبط ما فعله الله الآب في ملء الزمان، أرسل يسوع الذي حلّ بيننا أي نصب خيمته بيننا، ترك أمجاده العظيمة وعرشه الأعلى، ونزل من سمائه إلى أوضع مكان.
وبينما نحتفل بذكرى ميلاده، تغيِّم في العديد من البلدان سحبٌ كثيفةٌ قاتمةٌ من الحروب والفقر والظلم، وحتى في البلدان التي تنعم بالأمان نرى ملايين الأفراد يرزحون تحت أثقال الهموم والأمراض وفقدان الأحباب وغيرها من الآلام البشرية، فكيف تعزّينا كلمة الله في غمرة ما نشعر به من حزن على آلام الزمان الحاضر؟
1- احتفال في السماء وبُشرى تُزَفّ للفقراء
ألا يدهشنا اختيار الله؟ كان الرعاة في تلك الأيام مُحتقَرين وغير مُعتبَرين من الشعب، فهم جماعة من غير المتعلّمين الذين يقضون أوقاتهم في الفلا، ورائحة الأغنام التي يرعونها تلتصق بثيابهم، وثيابهم تتشرّب من ندى الطبيعة ورائحة العشب، ولكن لهؤلاء بالذات دوّى صوت ملاك الرب من السماء، "لا تخافوا! فها أنا أبشّركم عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ: أنه وُلِد لكم اليوم في مدينة داود مخلّصٌ هو المسيح الربّ". (لوقا 10:2-11) ويذكّرنا بولس لاحقًا بنعمة اختيار الله، "اختار الله جهّال العالم ليخزي الحكماء... واختار الله أدنياء العالم والمزدرى وغير الموجود ليُبطِل الموجود". (1كورنثوس 27:1-28) كم نسمع في هذه الأيام عن حفلاتٍ مسرفة لمشاهير العالم لا يكون فيها للإنسان العادي مكان، أمّا الله العظيم فقد أرسل جمهورًا من ملائكته لتحلّق في سماء بيت لحم فوق رؤوس الرعاة وترفع لله أنشودة التسبيح والسجود كما ورد في عبرانيّين 6:1، "متى أَدْخَلَ البكر إلى العالم يقول: [ولْتسجدْ له كلُّ ملائكة الله]".
2- دموعٌ وأحزان في بيوت الجيران
تدهشنا قسوة حكام العالم في أيامنا هذه، وهكذا كان الأمر عند ولادة المسيح خلال حكم هيرودس الشرّير الذي لم يتردّد في قتل أي إنسان يهدّد مركزه أو سلطته حتى أنه أعدم زوجته مريم، وابنَيْه منها وأمّها. ولا غرابة إذًا في يأمر بقتل جميع الصبيان في بيت لحم وتخومها بحسب الزمان الذي تحقّقه من المجوس. وفي أيامنا يعاني ملايين الأطفال، ولا سيما في شرقنا الأوسط وأفريقيا، من الجوع والبرد والمرض والعوز، كما فقد مئات الأطفال حياتهم بسبب أمثال هيرودس من قساة القلب. ما يعزّينا أنّ الله يرى ويسمع تمامًا كما سمع لإسماعيل في الماضي ورأى ضيق هاجر. نصرخ مع سليمان، "هوذا دموع المظلومين" وننتظر من السماء يسوع لكي يأتي ثانية لا طفلاً وديعًا بل ملكًا يمسح الدموع ويبدّد الأحزان، "وسيمسح اللهُ كلّ دمعةٍ من عيونهم، والموتُ لا يكونُ في ما بعد، ولا يكون حزنٌ ولا صراخٌ ولا وجعٌ في ما بعد". (رؤيا 4:21)
3- تهجيرٌ وتشريد لعائلة الوليد
بلغ عدد اللاجئين في العالم 3,117 مليون شخص في نهاية العام 2023 بحسب إحصائية المفوضية السامية للأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين، ومنهم 4,43 مليون لاجئ دون الثامنة عشرة من العمر. وقد يشكّك البعض في وجود الله في ظلّ هذه المظالم، لكنّ الله سمح لابنه يسوع مع مريم العذراء ويوسف البارّ بالتعرّض للتهجير والتشريد بسبب مطاردة الملك هيرودس ورغبته في قتل يسوع. كم كانت تلك الرحلة شاقة على ظهر الدواب لمسافاتٍ طويلة في البرية! وكم عانت العائلة في الغربة بعيدًا عن الأهل والأصدقاء! فمريم الشابة لم يكن لها ما تحظى به فتيات أيامنا من دعم الأقرباء ووسائل الراحة والترفيه. وكان كلّ هذا لكي تتمّ النبوّة، "من مِصر دعوت ابني".
لا نفهم أحيانًا كثيرة سبب سماح الله بظروفٍ صعبة في حياتنا، لكننا نتعزّى في ذكرى الميلاد أن يسوع اشترك معنا في جميع الآلام منذ ولادته في مكانٍ وضيع، ثم تشرّده في طفولته، وبعدها حياة الفقر في الناصرة. لن يكون لأيّ إنسانٍ حجّة أمام الله في يوم الدينونة، لقد زارنا طفلًا وديعًا، واهتمّ بتبشير أوضع الناس بخبر ولادته، تعرّض لظلم الحكّام، وتشرّد بعيدًا عن موطنه الأرضيّ وكما قال الكتاب، "ليس لنا رئيس كهنة غير قادر أن يرثيَ لضعفاتنا، بل مجرَّبٌ في كل شيء مثلنا، بلا خطية". (عبرانيين 15:4)
في حديقة مقرّ الأمم المتّحدة في نيويورك تمثال منحوتٌ برونزيّ لرجلٍ يعمل على رمحه لتغييره وقد كتب أسفله، "فَيَطْبَعُونَ سُيُوفَهُمْ سِكَكًا وَرِمَاحَهُمْ مَنَاجِلَ. لاَ تَرْفَعُ أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ سَيْفًا، وَلاَ يَتَعَلَّمُونَ الْحَرْبَ فِي مَا بَعْدُ". وردت هذه الآية في إشعياء 4:2 وهي منتزعة من سياقها الذي يتحدّث عن مُلكِ المسيح العتيد. هذا عزاؤنا في ذكرى ميلاده، بأنه شفيعنا ووسيطنا أمام الله، وسيأتي عن قريب ليملك إلى الأبد. نقول كما علّمنا ربّنا يسوع، "ليأتِ ملكوتك" وعندها سيسود السلام الحقيقيّ المنشود.