الفصل الرابع: الله محبة - يهوه أجابوس
Jehovah Agabos
وقد ذكرت هذه العبارة مرتين في رسالة يوحنا الأولى 8:4 و16، والتأكيد على أنها اسم وليست فعلاً هو أنها، إن كانت فعلاً فهي صفة محددة ولها وقت معين، ولكن إن كانت اسمًا فلا يمكن الانفصال عنه إذ كيف تكره المحبة ذاتها. هذا وقد استخدم اليونانيون في العهد القديم كلمتين تدلان على المحبة:
1ـ فيليو Phileo (1صموئيل 41:20)
هي المحبة الأخوية، وتستعمل بين الأصدقاء، وتعتمد اعتمادًا كليًا على المعاملات بين الناس، وهي متوازنة في كميتها. فإن أحبك صديق تحبه بمقدار هذه المحبة.
2ـ إيروتيكا Erotica (2صموئيل 4:11)
وهي الرغبة الشهوانية، وتستخدم في العلاقة بين الرجل والمرأة. وهي تستخدم أيضًا للأشياء، فنقول مثلاً: إن فلانًا اشتهى أن يأكل أرانب بالملوخية. أو أنا أحب أن أمتلك سيارة مرسيدس بنز. وهذه رغبة جامحة في ناحية واحدة، إذ تريد أن تأخذ دائمًا وليس فيها عطاء. ومع ظهور المسيحية ظهر في اللغة اليونانية معنى ثالث.
3ـ أجابي Agape (يوحنا 16:3)
هي المحبة الإلهية التي تحب من طرف واحد دون الاعتماد على الطرف الآخر. إنها المحبة المعطاءة الباذلة التي لا تنتظر جزاءًا أو مكافأة، وهي المحبة التي أحبنا بها الله. "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الابدية." وكما هو مكتوب في رومية 8:5 "ولكن الله بيَّن محبته لنا، لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا." وقد كتب الرسول بولس عن المحبة في 1كورنثوس 13 "إن كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة ولكن ليس لي محبة، فقد صرت نحاسًا يطنّ أو صنجًا يرنّ. وإن كانت لي نبوّة، وأعلم جميع الأسرار وكل علم، وإن كان لي كل الإيمان حتى أنقل الجبال، ولكن ليس لي محبة، فلست شيئًا. وإن أطعمت كل أموالي، وإن سلمت جسدي حتى أحترق، ولكن ليس لي محبة، فلا أنتفع شيئًا. المحبة تتأنى وترفق. المحبة لا تحسد. المحبة لا تتفاخر، ولا تنتفخ، ولا تقبِّح، ولا تطلب ما لنفسها، ولا تحتدّ، ولا تظن السوء." هذا يعني أن المحبة تتأنى على الناس الذين يصعب التأني عليهم، وترفق بجميع الناس عندما يحتاجون إلى الرفق، المحبة لا تملك شيئًا، فكل ما لها هو للناس الذين يحتاجون إليه. المحبة لا تتصارع، ولا تبغي التفوّق في أي مجال على حساب الآخرين، ولكنها تفسح المجال للجميع بل تمهّد الطريق. المحبة لا تنتفخ ولا تتفاخر ولا تقبّح ولا تطلب ما لنفسها. المحبة لا تحتدّ، ولا تظن السوء، ولا تفرح بالإثم، بل تفرح بالحق حتى ولو حدث الإثم لأناس يستحقونه. المحبة تحتمل كل شيء، وتصبر على كل شيء، وترجو كل شيء، المحبة لا تسقط ابدًا ــ أما النبوات فستبطل، والألسنة فستنتهي، والعلم فسيُبطل لأن كل هذه المواهب وقتية.
"لما كنت طفلاً كطفل كنت أتكلم، وكطفل كنت أفطن، وكطفل كنت أفتكر. ولكن لما صرت رجلاً أبطلت ما للطفل. فإننا ننظر الآن في مرآة، في لغز، لكن حينئذٍ وجهًا لوجه. الآن أعرف بعض المعرفة، لكن حينئذٍ سأعرف كما عُرفت. أما الآن فيثبت: الإيمان والرجاء والمحبة، هذه الثلاثة ولكن أعظمهن المحبة."
فالإيمان ينتهي برؤية الله والرجاء ينتهي حينما نصل إلى الأبدية السعيدة ونعيش في حضرة الرب. أما المحبة فلا تموت أبدًا. نحن نحتاج إليها هنا، ونحتاج إليها بعد أن نخلع ثياب هذه الدنيا وننتقل إلى حيث تكون المحبة بجملتها. إنها الصفة الوحيدة التي لن تموت، ويمكننا أن نقسم هذه المحبة الإلهية إلى ثلاثة أقسام: المحبة المنعمة، المحبة المضحية، المحبة الغامرة.
1ـ المحبة المنعمة
إن الله قد أحبنا فضلاً لا لخير فينا ولا لصلاح عملناه، إذ نقرأ في أفسس 8:2 "بالنعمة أنتم مخلصون، بالإيمان، وذلك ليس منكم. هو عطية الله. ليس من أعمال كي لا يفتخر أحد. لأننا نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة، قد سبق الله فأعدها لكى نسلك فيها."
خلق الله آدم بنعمته. أما آدم فسقط في الخطية فقرر الله أن ينقذه من مخالب إبليس عن طريق إرسال ابنه الوحيد يسوع "الذي صار جسدًا وحلّ بيننا." وجُرِّب في كل شيء مثلنا لكي يقدر أن يعين المجرّبين. لا نستطيع في بعض الأحيان بعقولنا البشرية المحدودة أن نتصوّر عمق هذه المحبة المنعمة، ولكن نتمتع بها دون أن ندري مداها، فلنقبل إليه لأنه قال: "من يقبل إليّ لا أخرجه خارجًا."
فبالنعمة اختار الله إبراهيم وبني إسرائيل ولنسمع ما يقوله الروح القدس في تثنية 7:7-8 "ليس من كونكم أكثر من سائر الشعوب... بل من محبة الرب (المنعمة) إياكم، وحفظه القسم الذي أقسم لآبائكم."
ونقرأ في رومية 8:5 و10 "ولكن الله بيَّن محبته (المنعمة) لنا، لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا... لأنه إن كنا ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت ابنه، فبالأولى كثيرًا ونحن مصالحون نخلص بحياته!" وفي عدد 20 يذكر "ولكن حيث كثرت الخطية (كان من المفروض أن يكون حكم الله شديًدا عليها) ازدادت النعمة جدًا." وفي رومية 1:6-2 "فماذا نقول؟ أنبقى في الخطية لكي تكثر النعمة؟ حاشا! نحن الذين متنا عن الخطية (بيسوع)، كيف نعيش بعد فيها؟" لذلك يقول الرب: "محبة أبدية أحببتك لأجل ذلك أدمت لك الرحمة." إنها تزيد عن محبة الأم لطفلها إذ يقول: "هل تنسى الأم رضيعها فلا ترحم ابن بطنها. حتى هؤلاء ينسين وأنا لا أنساك. هوذا على كفيّ نقشتك أسوارك أمامي دائمًا." هذه هي محبة الله التي ينعم بها علينا دون أن نستحقها. كالريح التي تدفع القارب على صفحة النيل دون أن تنتظر من صاحب القارب أجرًا، وكالشمس التي تشرق على الأشرار والصالحين.
كلم الرب موسى من العليقة لكي يكلفه بقيادة شعبه. وابتدأ موسى يعتذر قائلاً: "ها هم لا يصدقونني." فما هو اسمك حتى أخرجهم - أنا ثقيل الفم واللسان - أرسل بيد من ترسل. لكن الرب أجاب عن كل اعتراض أثاره موسى بصبر وبحب، وكلفه بالقيادة رغم عدم استحقاقه.
لقد أخطأ بنو إسرائيل وعملوا الشر في عينَي الرب فدفعهم ليد مديان سبع سنوات. وكان المديانيون يتلفون غلة الأرض ولا يتركون لإسرائيل حتى قوت الحياة. وصرخ بنو إسرائيل للرب، وسمع الرب صراخهم، وظهر ملاك الرب لجدعون بن يوآش الأبيعزري، وكان يخبط الحنطة في المعصرة خوفًا من المديانيين، وقال له: "الرب معك يا جبار البأس." فقال جدعون: "إن كان الله معنا فلماذا أصابتنا كل هذه البلايا؟" فقال ملاك الرب: "اذهب بقوتك هذه وخلِّص إسرائيل من كف مديان. أما أرسلتك؟" واعتذر جدعون بأن عشيرته هي الصغرى في منسى، وأنه هو الأصغر في بيت أبيه. وابتدأ جدعون يمتحن الرب مرة بعد الأخرى، لكن الرب بمحبته المنعمة الغنية لم يغضب عليه "لأنه يعرف جبلتنا. يذكر أننا تراب نحن."
2– إله المحبة المضحية
هناك فارق كبير بين النعمة والتضحية. فالنعمة هي إعطاؤنا ما لا نستحقه مما عند الرب من بركات وخيرات، أما التضحية فهي خطوة أبعد، ومحبة أعمق. فهي ليس إعطاءنا أشياء لا نستحقها فقط، بل هي بذل ابنه الوحيد الحبيب لكي يموت على الصليب من أجلنا "متبررين مجانًا بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح." (رومية 24:3)
"نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولاً." وهو الذي اختارنا. كيف يمكننا أن نردّ هذا الجميل وهذه المحبة إلا بأن نردد مع الرسول بولس ما جاء في رومية 1:12-2 "فأطلب إليكم أيها الإخوة برأفة الله أن تقدّموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله، عبادتكم العقلية. ولا تشاكلوا هذا الدهر، بل تغيّروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم، لتختبروا ما هي إرادة الله: الصالحة المرضية الكاملة."
3– إله المحبة الغافرة
نقرأ في رسالة يوحنا الأولى 9:1 "إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل، حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم." الأمانة هي طبيعة الله إذ إنه لا يقدر أن ينكر نفسه أو وعوده لنا بالمغفرة. والعدل أيضًا هام جدًا. ذلك لأن كل من يخطئ لا بد أن يجازَى. لذلك استوفى الله عدله في الصليب، كما هو مكتوب في إشعياء 4:53-5 "لكن أحزاننا حملها، وأوجاعنا تحمّلها. ونحن حسبناه مصابًا مضروبًا من الله ومذلولاً. وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا. تأديب سلامنا عليه، وبحبره شفينا."
فالأمانة مهمة لغفران الخطايا حسب وعوده، والعدل مهم لتطهيرنا من كل إثم عن طريق دم المسيح. ولقد قال "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم... تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم." (متى 28:11-29) وهكذا نرى أن الله لم يعطنا النعمة فقط، مع أنها غنية جدًا، ولم يضحِّ بابنه بسبب هذا الحب، مع أن هذه التضحية عجيبة في أعيننا، لكنه منحنا الغفران التام لأنه قد غسّلنا من خطايانا بدم المسيح الذي طهرنا تطهيرًا تامًا، وصار يسوع برَّنا كما هو مكتوب في إشعياء 10:61 "فرحًا أفرح بالرب. تبتهج نفسي بإلهي، لأنه قد ألبسني ثياب الخلاص. كساني رداء البر، مثل عريس يتزيّن بعمامة، ومثل عروس تتزيّن بحليها." لكن هذه المحبة الغافرة مشروطة بأن نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا. هذا شرط يبدو لأول وهلة أنه بسيط، ولكن في بعض الأحيان نجده صعبًا جدًا من الناحية الإنسانية. فنحن نرفض أن نغفر للآخرين لأسباب كثيرة يضعها إبليس في أفكارنا. ولكن لنصرخ قائلين: "أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقوِّيني." إذًا "لنطرح كل ثقل، والخطية المحيطة بنا بسهولة، ولنحاضر بالصبر في الجهاد الموضوع أمامنا، ناظرين إلى رئيس الإيمان ومكمّله يسوع، الذي من أجل السرور الموضوع أمامه، احتمل الصليب مستهينًا بالخزي، فجلس في يمين عرش الله." (عبرانيين 1:12-2) إنه يشفع في المذنبين من المؤمنين. إنني أحسّ بالقوة عندما أعلم أن ربي وحبيبي لا يزال يشفع فيّ إلى هذا اليوم. يا له من حب عجيب من إله الحب "يهوه أجابوس!"
هذا الجزء من المحبة هو الجزء المشروط الذي يعتمد اعتمادًا كليًا على أننا نغفر للمذنبين إلينا. ففي الصلاة الربانية نجد أن الشرط الوحيد الموجود في كل صلاة هو أننا نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا حتى نستطيع أن نحصل على الغفران السماوي، ويجب أن ننتبه بأن هذا الصفح من جانبنا هو في الحقيقة لخيرنا نحن، فكم من الأمراض تنتج عن محاولتنا الانتقام لأنفسنا؟ ولكن، يا حبّذا لو رددنا مع الرسول بولس الذي يقول عن الله: "لا تجازوا عن شر بشر." وأنه "لي النقمة أنا أجازي يقول الرب."