إنَّ من أصعب ما يواجهُنا في حياةِ هذه الأرض تلك اللحظات التي نقف فيها أمامَ مُفترق طرق،
ويكون علينا أن نتّخذ أحد الاختيارات دون غيره، ويزداد الأمر صعوبةً عندما يتعارض بعضُ هذهِ الاختيارات أو كلُّها مع مخطّطاتنا أو توقّعاتنا.
اسمحوا لي أعزّائي القرّاء أن نذهبَ ونسرحَ بخيالِنا إلى بستان الجلجثة حيث تمّتْ عملية فدائنا واكتملتْ، وهناك يُخبرنا البشير يوحنا عن بستانٍ وفي البستان قبرٌ جديد، أريدُكَ أن تقفَ معي وتُلاحظَ هذا القبر الشاهد عبر العصور عن القيامة المجيدة، لأنه ضمَّ الجسدَ الطاهر لربِّنا ثلاثة أيّامٍ بلياليها ثُمَّ تُرِكَ وحيدًا لأن القيامة غلبت الموت.
هذا القبرُ يعودُ بذاكرتنا إلى سفرِ النبيّ إشعياء والأصحاح 53 الذي يتكلّم بروحِ النبوّةِ عن آلامِ وموتِ المسيح، وفي العدد التاسع يتكلم عن دفنِهِ قائلًا: "وجُعِلَ مع الأشرار قبرُهُ، ومع غنيٍّ عند موتِهِ. على أنه لم يعمل ظلمًا، ولم يكن في فمهِ غشّ." فقد كان ترتيب الناس، وأقصد هنا الرومان، أن يدفنوا يسوعَ المصلوب في قبرٍ جماعيٍّ مع اللصّينِ الشرّيرين المصلوبَيْنِ معه، بينما الآية السابقة تؤكّد لنا أنه لم يعمل ظلمًا أو غشًّا إلّا أنهم حسبوه مع الأشرار ولذلك قال الوحي: "أُحصيَ مع أثمةٍ"، لكنَّ ترتيب السماء كان مختلفًا، فتلميذا الخفية [نيقوديموس ويوسف الذي من الرّامة] تحرّكا أخيرًا، واستفاقت شجاعتَهما وطلبا الجسدَ المصلوبَ من بيلاطس، ووضعاهُ حسب ترتيب اليهود وعلى عَجَلٍ قبلَ بدء السبت في ذلك القبر الجديد في زاوية بستان الجلجثة.
ترتيبُ السماء هو الذي تحقّقَ وسادَ، وترتيبُ الناسِ وُضِعَ جانبًا، وتمَّ فهمُ هذهِ النبوءة في الآية أعلاه أخيرًا، وأكاد أجزم أنّ المفسرين والرابيّين في العهد القديم لم يجدوا لها تفسيرًا ملائمًا قبل إتمامها في ترتيبات دفن يسوع المصلوب.
الفارق بين ترتيب الناس وترتيب السماء هو كالفارق بينَ أحداث بستان عدن وأحداث بستان جثسيماني، ففي عدن كانَ كلُّ شيءٍ حسنًا وحسنًا جدًا، والحضورُ الإلهيّ يعطي للإنسان مقامًا ومكانةً وسلطانًا... لكنَّ ترتيب الناس (وأقصد هنا اختيار آدم وحواء للعصيان) رغمَ وجود الوصيّة والتحذير، يصلُ بنا إلى نتيجةٍ مرّةٍ، وكأنَّ شجرة معرفة الخير والشرّ في وسط الجنّة تصبح الطريق للقبر "لأنّكَ يومَ تأكل منها موتًا تموت"، أمّا ترتيب الله المُستند إلى محبةٍ عظيمة ومراحمٍ لا تزول فنجدُهُ يُكمَل في أحداث بستان جثسيماني، تلك الأحداث التي جعلت القبرَ هو الطريق إلى شجرةِ الحياة لأنّهُ سيكونُ بعدَ ثلاثةِ أيّامٍ الشاهدَ الأول لقيامة وغلبة أسد يهوذا أصل داود وأصل يسّى.
وهنا قادَ الروح القدس بولسَ الرسول ليكتبَ هذهِ المُفارقة العظيمة: "مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ، وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ، وَهكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ... لأَنَّهُ إِنْ كَانَ بِخَطِيَّةِ الْوَاحِدِ قَدْ مَلَكَ الْمَوْتُ بِالْوَاحِدِ، فَبِالأَوْلَى كَثِيرًا الَّذِينَ يَنَالُونَ فَيْضَ النِّعْمَةِ وَعَطِيَّةَ الْبِرِّ، سَيَمْلِكُونَ فِي الْحَيَاةِ بِالْوَاحِدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ!" (رومية 12:5، ١٧) أي، أن ترتيب الناس في بستان عدن أوصلني إلى القبر وأبعدني عن شجرة الحياة، لكنَّ ترتيب الله في بستان جثسيماني وعبرَ الموتِ والقبرِ أوصلني إلى شجرة الحياة من جديد، فكيفَ لا أقفُ بخشوعٍ في هذا البستان، وكيف لا أتأمّل بصليبه وقبره الفارغ المتروك شاهدًا وعلامةَ انتصار؟! وكيفَ لا أضعُ اختياراتي وأغربلُها أمامَ اختياراتِ السماء، وأقوّمُها بحسب منحى الروح القدس مرشدي والكلمة النبويّة دستور حياتي؟
وربما تسأل يا صديقي القارئ: كيفَ أميّز اختياراتي من اختيارات السماء؟ سأقول لكَ بأنَّ اختيارات السماء تفتحُ أمامَكَ أبوابًا أو توصدُها، وحينها لا يستطيع أحد أن يقاوم "الذي يفتح ولا أحد يُغلق ويُغلق ولا أحد يفتح"، فهنا كان ترتيب الرومان أن يكون مدفنًا جماعيًّا، لكنّه لا يليق بالقدوس ولا بالقيامة ولا يليق أن يكون شاهدًا، فبقيت ترتيباتهم على الورق فقط، وأغلقت السّماءُ هذا الباب وحرّكتْ تلاميذَ الخفية وأعطتهم شجاعة، وجعلت بيلاطس لا يعترض، وهكذا تمَّ الدفنُ والإكرام بالقبر الجديد وفق هذا الباب المفتوح من السماء التي أوصدت بابَ ترتيبات الرومان.
إليك مثلًا يا أخي ويا أختي، أنت رتّبتَ موضوعًا مهمًّا لحياتِكَ أو عائلتِكَ أو خدمتِكَ، وابتدأتَ بالتفكير فيه للتنفيذ، ووضعته في الصلاة وطلب المشيئة الصالحة، ويومًا بعد آخر أُوصِدت الأبواب وتغيّرَ اتجاه قلبك نحوَ خَيارٍ آخرَ... هنا سأقولُ لكَ جازمًا بأنَّ الربَّ يُغلق هذا الاختيار ويمضي بكَ إلى اختيارٍ آخرَ بحسب قلبه. ألم يُغلق أبوابًا كثيرة بوجهِ أحلام يوسف التي هوَ أعطاهُ إياها أصلًا، ولكن لمّا جاء الزمان المناسب والمكان المناسب تمّمَ الربُّ هذه الأحلام ومقاصدها، فكانت النتيجة أن يوسف عالَ أهلهُ والعشيرة واستبقى حياتهم (بترتيب سماوي)، حتى يأتي منهم النسل الموعود في ملء الزمان.
أمامَ قبرِكَ الجديد في ذلك البستان تسجد قلوبُنا وأرواحنا، ونهديكَ المجدَ والإكرام اللائق بشخصِكَ، ونُبدي استعدادنا للتنازل عن ترتيب الناس، ونقول لترتيبِكَ: لتكن مشيئتك يا ربّ.