ثانيًا- مقوِّماتُ الإيمانِ العظيم
أ- التواضع أمامَ نعمته: قال الرب يسوع: "... وتعلّموا مني،
لأنّي وديع ومتواضع القلب." (متى 29:11) فإذا أردتَ أن ترى مثالَ الإيمان الحقيقيّ فستجدُه في الرب يسوع الذي لم يعرِفْ خطيةً لكنّه تواضعَ أمام الله آخذًا صورةَ عبد. فكم بالحَريّ نحن؟ يبدأ هذا التواضُع بالتوبة الحقيقية أمامَ الله. لهذا يقول عن إيمانِ قائد المئة بأنَّه مميَّزٌ جدًّا.
كان عنده عبيدٌ يأمُر ويُنهي. وحين اقترب الربُّ يسوع من البيت لم يكن يعرفُ الناس أنَّه الرب وأنَّه ابنُ الله الحيّ إذ كان معلِّمًا في مجتمعٍ محتلٍّ وكان هناك مشكّكون كثيرون فيه. عندها للحال أرسلَ قائد المئة أصدقاءَه ليقولَ له: "يا سيّد لا تتعبْ. لأنّي لست مستحقًّا أن تدخُل تحت سقفي. لذلك لم أحسبْ نفسي أهلًا أن آتي إليك." هذا ما قاله أيضًا يوحنا المعمدان الذي كانَ أعظمَ أنبياء العهد القديم، قال: "لستُ أهلًا أن أحلَّ سيورَ حذائه." (لوقا 16:3ب) هذه هي كلمات النعمة الحقيقيّة. هذا هو المعنى الحقيقي للتواضع. لا نستطيع اختباره دون أن نحنيَ رؤوسَنا ونتواضع وننكسرَ أمام الرب رجالًا ونساء، كبارًا وصغارًا، شيوخًا وشبّانًا. علينا أن ندرك أنَّ هذه هي الوسيلة الحقيقيّة لكي ينمو هذا الإيمان الحقيقيّ في حياتنا. يقول الرب: "فإذا تواضع شعبي الذي دُعِيَ اسمي عليهم وصلُّوا وطلبوا وجهي، ورجعوا عن طرُقهم الرديَّة فإنني أسمع من السماء وأغفر خطيَّتهم وأبْرئُ أرضهم." (2أخبار 14:7) دعني أقول لك إن الصلاة لهي دليلٌ على مقياس تواضُعِك. لأنك حين تفكّر بأنَّك تستطيع أن تواجه يومَك وتُحلَّ كلَّ مشاكلك بنفسك بدون الصلاة والرجوع للرب فأنت لم تختبر تواضع الإيمان بواسطة الصلاة. أما الإنسان الذي يَحني ركبتيه في كل يوم أمام الرب ويقول له: "بدونِك لا أستطيع أن أفعل شيئًا. وكما قلتَ يا رب [لأنّكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا.] لهذا آتي إليك يا سامع الصلاة بكل تواضع وتوبة حقيقيّة تمامًا كما أتى إليك العشّار؛ وليس كالفريسي المفتخِر بأعماله الذي قال عن نفسه: "أعشِّر كلَّ ما أقتنيه." - هذه صورة واضحة عن الناس المفتخرين بتديُّنهم الخارجي الذي لا قيمةَ له إطلاقًا - لأنَّ أعمالنا هي كالخِرَق البالية أمام الله مقارنة مع الإيمان الحقيقي السَّاجد عند قدمي السيد. عندها يسمع الرب من السماء ويغفر الخطايا ويبرئ أرضنا.
ليس التواضع الذي يبدأ بالتوبة هو الأمر المهم فحسب، بل أيضًا نحن بحاجة إلى تطهيرٍ يوميّ من هذه الطبيعة الأنانيّة. لأنَّنا مرضى وبحاجة إلى علاج يوميّ مثلَما قلنا سابقًا (الناس معجَبون بأنفسهم) فترى الناس في القرن 21 مفتخرين ولسانُ حالهم "يا أرض اشتدّي وما حَدا قدّي". هذا هو مقياس الناس. قال كارل هنري: "الإنسانُ في رغبته بامتلاكِ العالم جعَل نفسه إلهًا مرارًا وتكرارًا." لهذا كان الإنسان في الماضي يعبدُ الشمسَ والقمر والنار والأصنام والحيوانات. أما الآن فهو يعبد نفسه دون أن يلتفتَ إلى الله الحيّ. فعلًا مَن صارَ لنفسه إلهًا صار لغيرِه شيطانًا.
هل تعلم أنَّ الكابتن البريطاني جيمس كوك اكتشف أستراليا وصار يأتي إليها مع الأساطيل واستعمرها الإنكليز فيما بعد، كما اكتشف نيوزيلاندا. وفي رحلاته المستمرة وصل إلى جزر الهاواي. أتى إليها بكامل معدَّات الجيش البريطاني من مدافع وجنود وملابس وأُبَّهة وعنجهيّة. وحين رآهُ الناس هناك راحوا يسجُدون له ويهتفون: [هذا إله] بسبب القوة التي ظهَر فيها أمامهم. بالطبع سرَّ بذلك وصار يستبدُّ بالشعب وسيطر عليهم. لكن حين أقلعت سفينته مرّة في المحيط حدثت عاصفةٌ هوجاء قوية حطَّمت السفينة فخاف ورمى نفسه بالماء وسبح نحو الشاطئ. وحين وصل راح يستغيثُ بالناس ويقول لهم: ساعدوني أرجوكم. فأجابوه: وهل يعقل أن يغرق الإله؟ عندها عرفوا كذبَه فأخذوه وحاكموه وحكموا عليه بالقتل. هذا هو الإنسان المتكبّر الذي يدمِّر نفسه بنفسه. ألم يقلِ الكتاب: "قبلَ الكسرِ الكبرياء." (أمثال 18:16) وأيضًا: "يقاومُ الله المستكبرين." (يعقوب 6:4) فالتواضع ليس هو أن تحتقرَ نفسك، كلَّا! بل أن تنسى نفسَك ولا تجعل حياتك تدورُ حول نفسك بل حول الرب يسوع، له كل ُّالمجد! أخبرنا أحد الإخوة الذي انخرط مؤخّرًا في دورةٍ تدريبيّة عن كيف يصير الفرد قائدًا، بأنَّ الأستاذ طلب من الطلاب بأن يقرعوا على صدورهم ويهتفوا: أنا عظيم، أنا عظيم! يا للعجب! حقًّا فالقيادة هي أن يكون القائد خادمًا وليس مفتخرًا ومعجَبًا بنفسه!
أما الشيء الجميل هنا في حادثة قائد المئة هو حين قال للمسيح: "لست مستحقًّا... لذلك لم أحسب نفسي أهلًا أن آتي إليك." وهذا يذكّرني بقول بولس: "أنا الذي لستُ أهلًا لِأن أُدْعى رسولًا." (1كورنثوس 9:15) و "لي أنا أصغرَ جميع القدّيسين". (أفسس 8:3) وأيضًا: "... ليخلّص الخطاة الذين أوّلُهُم أنا." (1تيموثاوس 15:1ب) أما الابن الضال فقال: "ولست مستحقًّا بعدُ أن أُدْعَى لكَ ابنًا..." (لوقا 19:15) هذه هي التوبة الحقيقيّة ولهذا يستخدمُ الربُّ أمثال هؤلاء الناس المتواضعين.
كان [كرنيليوس فاندايك] رجل الله المعروف طبيبًا، وهو من مؤسسي الجامعة الأمريكية في بيروت. خدم الرب بكلّ تواضع لسنينَ طويلة ترجم خلالها الكتاب المقدس الذي هو بين أيدينا اليوم. وقد أوصَى قبل وفاته ألّا يتكلّم أحدٌ عن كرنيليوس في حفل وداعه الأخير بل أن يتكلّموا فقط عن إله كرنيليوس وربّه. وعلى الرغم من ذلك فلقد أتى الناسُ من كل الطوائف والأجناس ليَرْثوه. ليتَ الرب يمنحنا نحن أيضًا هذا النوع من التواضع، وهكذا نتواضع تحت يدِه القويّة لكي يرفعنا في حينه. هذا هو أساسُ الإيمان الحقيقيّ.
ب- الانقيادُ والثقة بمحبته: "وأما الإيمان فهو الثقة بما يُرجى والإيقان بأمور لا تُرى." (عبرانيين 1:11) هذا الإيمان هو الثقة بمحبّة الله أي أن نعيشَ بالمحبة. فبعد الولادة الثانية عليك أن تحيا هذه المحبة العظيمة. وأن تُظهر محبة الله الأبويّة والأبديّة من خلال المسيح للآخرين. هذا هو الإيمان العامل بالمحبة الذي تكلّم عنه الرسول: "لا تصيّروا الحرية فرصةً للجسد، بل بالمحبة اخدِموا بعضُكم بعضًا." (غلاطية 13:5) ويصرّح عن نفسه ليقول: "مع المسيح صُلبت، فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ. فما أحياه الآن في الجسد، فإنّما أحياه في الإيمان، إيمانِ ابنِ الله، الذي أحبّني وأسلمَ نفسه لأجلي." (20:2) ليتنا ننمو فعلًا في هذه المحبة. إننَّي شاكرٌ للرب وفخورٌ بالإخوة المتقدّمين في السنّ والإيمان وبالجيل الجديد والشباب الذي يحبوّن الرب ويحيَوْن فيه. ولا ننسى صغار النفوس أيضًا، إذ علينا أن نُظهر لهم هذه المحبة الحقيقيّة.
نحن لا نعرف معنى أن يكون الإنسان عبدًا فالعبد يُعْتَبَرُ مُلْكًا لسيِّده ومتاعه. حتى إنَّ الأسياد في ذلك الزمان كانوا يعتبرونَهم من الحيوانات الناطقة. وحين يمرضُ العبد كانوا يقتلونه. لكنِ انظُرْ إلى قائد المئة هذا: لقد اخترق الجدارَ العرْقي والطَّبقيّ تمامًا كما قال الرسول: "ليسَ يهوديٌّ ولا يونانيٌّ. ليس عبدٌ ولا حُرٌّ. ليس ذكرٌ وأُنثى، لأنكم جميعًا واحدٌ في المسيح يسوع". (غلاطية 28:3) ونظرَ بمحبّةٍ إلى هذا العبد فقال للمسيح: غلامي مريض... أنا لا أستحقّ، لكن اشفِه بمحبّتك. الإنسان حالته من دون الرب هي حالة العبد. "ولكنَّ الله بيّن محبّته لنا، لأنّه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا". (رومية 8:5)
لكن ما هي حالة الإنسان بدون الإيمان بنعمة ابن الإنسان؟
1- عبدٌ في حالة العصيان: يقول بولس في (أفسس2:2) "الروح الذي يعمل الآن في أبناء المعصية." وأيضًا في رومية: "لأنّكم لمّا كنتم عبيدَ الخطيّة، كنتم أحرارًا من البرّ." (20:6)
2- ميت ومُدان: أي بعيد عن نعمة الإيمان. "وأنتم إذ كنتم أمواتًا بالذنوب والخطايا". (أفسس 1:2) كذلك العبد المريض والمشرف على الموت.
3- مُنحرف وملتوي اللسان: يقول الرسول بولس: "الجميع زاغوا وفسدوا معًا. ليس من يعمل صلاحًا ليس ولا واحد. حنجرتُهم قبرٌ مفتوح. بألسنتهم قد مكَروا. سِمُّ الأصلال تحت شفاههم. وفمُهم مملوء لعنةً ومرارة. أرجلُهم سريعةٌ إلى سفكِ الدم". (رومية 12:3-15) عندما تستمع إلى الأخبار اليوم، وترى كيف يتفوّه الإنسان ضدّ الآخر بكلماتٍ بذيئة نابية تتأكَّد أنَّ سُمَّ الأصلالِ تحت شفاههم فعلًا.
لكن ليس هكذا أولاد الله الذين وُلدوا من روح المسيح. لذا نسمع الرسول يوحنا يقول: "انظروا أيَّة محبة أعطانا الآب حتى نُدعى أولادَ الله!" (1يوحنا 1:3) هذه المحبة التي تلمس قلبَ الإنسان. نعم! كانَ عبدُ قائد المئة عزيزًا جدًا عليه. ونحن أيضًا صرنا أعزاء مكرّمين عند الرب إذ يقول: "إذ صرتَ عزيزًا في عينيَّ مكرَّمًا، وأنا قد أحببتُكَ." (إشعياء 4:43) وكذا لكلِّ من يأتي إليه يقول كلماتِ النعمة هذه: "لا تخفْ لأنّي فديتُك. دعوتُكَ باسمك. أنتَ لي." (إشعياء 1:43) هذه المحبّة الأبويّة تناديكَ إلى شخص المسيح المصلوب. فلو لم يكنِ اللهُ محبّة ماذا كنّا نستطيع أن نفعل يا ترى؟ إنَّ بعض الأفكار الدينيّة المنتشرة هي أنَّ الله مجرَّدُ قاضٍ يمتحِنُنا ويحاسبنا ليَرى إذا كان سيُلقينا في النار أم لا. لكن لو كانَ الله حقًّا كذلك، فلن يكون بإمكاننا فعلُ أي شيء. أليس كذلك؟ لكن شكرًا لله لأنَّه فعلًا هو إله المحبة.
ثالثًا - الطاعةُ لسلطان كلمتِه:
إنَّ أساسَ إيماننا هو سلطانُ كلمة الله. قال قائد المئة: "لكن قلْ كلمة فيبرأَ غلامي." والإيمان كما نعلم هو بالخبر والخبر بكلمة الله. يقول الربُّ يسوع: "تعالَوْا إليَّ يا جميعَ المتعبين والثقيلي الأحمال، وأنا أريحكم." (متى 28:11) فلا أحدَ يقدرُ أن يمنحكَ الراحة والحياة الأبدية إلَّا الرب. يقول بطرس الرسول في أعمال الرسل: "وليسَ بأحدٍ غيرِه الخلاص. لأنْ ليسَ اسمٌ آخَرُ تحتَ السماء، قد أُعطي بينَ الناس، به ينبغي أن نخلُص". (12:4) وقال الرب يسوع: "أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس أحدٌ يأتي إلى الآب إلّا بي". (يوحنا 6:14) أمّا مريم العذراء فقالت للخدام في عرس قانا الجليل: "مهما قال لكم فافعلوه." (يوحنا 5:2) وفاه قائد المئة بهذه الكلمات: "... وأقول لهذا: اذْهَبْ! فيَذهَب، ولآخرَ: ائْتِ! فيأتي، ولعبدي: افعَلْ هذا! فيفعل." ليس أحدٌ غيرَه - يا أخي - صاحب السلطان، فهل تأتي إليه؟ يقول الرب يسوع: "فكلُّ مَن يسمع أقوالي هذه ويعمل بها، أشبِّهه برجلٍ عاقل، بنى بيته على الصخر. فنزل المطر، وجاءتِ الأنهار، وهبَّتِ الرياح، ووقعتْ على ذلك البيت فلم يسقطْ. لأنّه كان مؤسَّسًا على الصخر". (أي صخر كلمة المسيح). (متى 24:7-25) فهل تطيع يا أخي كلمة المسيح؟
يقول أيضًا: "الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يحبّني." (يوحنا 21:14) الإيمان هو الطاعة. تعال إليه فسيضمُّك إلى قلبه الحنون. وإذا كنتَ قد اختبرته حقًّا، كرِّس حياتك له لأنّه يريد أن يستخدمَك. وإذا كنت بحاجة إلى تشجيع أو تعزية ها هو يقول لك: أنت عزيزٌ، ولا تخف. وإذا كنتَ تمرُّ بحالةٍ من الفتور الروحي فاتّخذْ هذه الفرصةَ لتعودَ وتتمتَّع بسكيبِ محبّته العظيمة عبر يقين الإيمان.