من أجملِ اللحظات التي أقضيها مؤخّرًا هي حينَ أجلسُ لأشاهدَ أحد البرامج التلفزيونية المفضَّلة لديّ بعنوان: "الطبيعة".
حيثُ ينقلُني البرنامج إلى عالمٍ آخَر بعيدٍ عن العالم المحيط بي بما فيه من حروبٍ ومشاكلَ وأخبارٍ مزعجة ومناظرَ أليمة وويلاتٍ وضياعٍ يعيشُ فيه الناسُ بعيدينَ عن مصدر الحبِّ والسلام. هذا عدا عن جَعْجَعَةِ السياسيّين وتبجُّحاتِهم التي صمَّتْ آذاننا في هذه السنةِ الانتخابية هنا في أميركا.
وهناكَ أسرحُ في المناظر الخلَّابة التي التقَطَتْها عدساتُ المصوِّرين المبدِعين، فتَراني أرتفعُ معها إلى الجبال الشاهقة المكسوّة بالثلوج وتنزِلُ بي إلى الوديانِ السَّحيقة. وخلال ثوانٍ من الزمن أبدأُ أشعرُ وكأنَّ رذاذَ الماء العذب في العمق صارَ يلثمُ وجهي، وكذا رحتُ أسمع خريرَ مياه الشلَّالات المتدفِّقة بقوّة من فوقُ إلى أسفل. كلُّ هذا بكفَّةٍ (كما يقول المثل العامي) ومشاهدُ الحيوانات المتنوّعة الكبيرةِ منها والصغيرة وحتى الحشرات التي تصعب رؤيتُها، بكفَّةٍ أخرى. وفي تلك اللَّحظات أو الدقائق أجدُ نفسي وقد تجدَّدتُ من الداخل وانتعشتْ روحي فيفيضُ قلبي بالشكرِ للصانعِ الأرقى والخالقِ الأسمى. هذا عَدا عن مناظرِ النباتات والزهور والورود التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى من الملايين المتعدّدة. وحينذاك أحسُّ بنفسي وكأنَّني قد ذهبتُ في رحلةٍ ممتعةٍ أو قُلْ في خلوةٍ حقيقيّة وأنا لم أزَلْ في مقعدي وفي منزلي. وما أن ينتهي برنامج الطبيعة هذا حتى تراني قد اكتسبتُ بالحقّ جُرعةً لا بأسَ بها من الهدوء والسلام والراحة النفسيّة. وأظلُّ أقف مندهشةً من كلِّ ما حَبَا اللهُ هذه الكرةَ المعلَّقة في الهواء من رونقٍ وجمالٍ وروعة.
وكلَّما راقبتُ أمثالَ هذه المشاهد سواءً على التلفاز أو حين أخرجُ لأتمشّى في الحدائق وأتظلَّلُ بأشجارِها الخضراء من أشعّةِ الشمس الحارّة، أتذكَّرُ الكلمات المدوَّنة في سفر الأمثال التي جاءت على فم أَجور ابن مُتَّقِيَة من مسَّا المملكة التي كان يحكمُها لموئيل. وكانَ هذا معلِّمًا حكيمًا إذ كتب: "مَنْ صعِدَ إلى السماواتِ ونزَل؟ مَنْ جمَعَ الرِّيحَ في حفنَتَيْه؟ مَنْ صرَّ المياهَ في ثوبٍ؟ مَنْ ثبَّت جميعَ أطرافِ الأرض؟ ما اسمُه واسمُ ابنِه إنْ عرَفْتَ؟" (أمثال 3:30ب-4)
بالحق، ما أعجبَ هذا الوصف! هل تعلم صديقي أنَّ هذه الكرةَ المعلَّقة في الهواء ليس لها وزنٌ واحد فقطْ! إذ يعتمد وزنُها على قوّة الجاذبيّة التي تحسبُها. ممَّا يعني أنَّها قد تزِنُ تريليونات من الباوندات أو لا شيءَ على الإطلاق، بحسب غوغل! لكنْ ما قضى العلماء قرونًا في تحديده هو كتلةُ الأرض. ووفقا لوكالة ناسا الأمريكية: تبلغُ كتلةُ الأرض (13:1) سيبتليون رطل. ولكي نبسِّط الموضوع أودُّ أن أشاركَ معك ما سمعتُه مؤخَّرًا من الدكتور ماهر صموئيل في إحدى عظاتِه في هذا الشأن إذ قال:
"حين تنظرُ إلى الكرة الأرضية تجدُها قطعةً واحدة يبلغ وزنُ كتلتِها 6 بليون تريليون طن. (البليون هو ألف مليون) أي واحد ويتبعه 9 أصفار. أما التريليون فهو مليون مليون أي 1 ويتبعه 12 صفرًا. وهي معلّقة في الفراغ، بدون حبل، ولا خيط، ولا عمود، ولا أساسًا يدعمُها. ولو لففْتَ حولَها خيطًا لوجدتَ أنَّ محيطَها يبلغ 40,000 كم. وهي تدور حول نفسها تمامًا كالنحلة دونَ توقُّف بسرعة 26 كيلومترًا في الدقيقة الواحدة. وهي تدورُ أيضًا حول الشمس في مدارٍ طولُه 950 مليون كيلومتر وبسرعة 30 كم في الثانية. كما أنَّها تسيرُ مع الشمس في حركةٍ خَطِّيّة بسرعة 230 كم في الثانية. إذن هذه الكرة المعلّقة تقوم بثلاث حركات في نفس اللحظة فتدور حول نفسها، وحول الشمس وتتحرّك في حركة خطيّة إلى المجهول مع الشمس بتلك السرعة الرّهيبة منطلقةً كالصاروخ. مع العلم أنَّ أسرعَ صاروخٍ عابرٍ للقارَّات تبلغُ سرعتُه القصوى 7 أو 8 كم في الثانية. وهذه الكرة المعلّقة عليها مياه، وبنو آدم، وبيوت، وجبال، وحيوانات... والماء لم ينسكبْ والبيوت لم تقعْ والناسُ تعيش وتعمل، بينما تبدو هذه الكرةُ العجيبة وكأنَّها ثابتةٌ لا تتحرَّك. فكيف هي معلّقة؟ ومَنِ الذي علَّقها، ومَن يحفظُها في مَسارها؟ ويقولُ البعض إنَّ الله غيرُ موجود؟ أمَّا أنا فأؤمنُ بوجودِ خالقٍ ليسَ لأنَّ قلبي يتمنَّى ذلك، لكن لأنَّ الدليل يقنعُني بوجود خالق. وهذا ما يشكِّلُ عقلي وقلبي. فعندما تضيقُ الدنيا حولي أو عندما تتمرَّدُ خليّةٌ ما في جسدي، أو عندما يفاجئُني ظلمُ البشر أو شراسةُ ميكروب، فإنَّ أوّلَ شيءٍ أتذكَّرُه هو أنَّه يوجد إلهٌ علَّقَ الأرضَ على لا شيء، وهو مسيطرٌ على كلِّ شيء، وهو يعتني بي."
هل تذكر صديقي كيف أجابَ اللهُ أيوب عن تساؤلاتِه الكثيرة أيضًا بأسئلةٍ، حاولَ من خلالها أن يُفهِمَه شيئًا عن نظامِ الأرض الطبيعي الذي يجهلُه، قال: "أينَ كنتَ حين أسّستُ الأرض؟ ... مَن وَضع قياسَها؟ أو مَنْ مدَّ عليها مِطمارًا؟ على أيِّ شيءٍ قرَّتْ قواعدُها؟ أو مَن وضعَ حجرَ زاويتِها... ومَنْ حجزَ البحرَ بمصاريعَ حين اندفقَ فخرج َمن الرَّحم... وجزمتُ عليه حدِّي، وأقمتُ له مغاليقَ ومصاريع، وقلتُ: إلى هنا تأتي ولا تتعدَّى، وهنا تُتْخَمُ كبرياءُ لُجَجِكَ؟" (أيوب 4:38-10) وبهذه التساؤلات التي سألَها الله لأيوب عبدِه أعلَن عن قدرتِه السَّرمدية بأنَّ كلَّ قوى الطبيعة إنمَّا هي تحتَ أمرِه والله هو الذي يُطلقُها ويقيِّدُها كما يشاء لأنَّه وحدَه الخالق. يذكر التفسيرُ التطبيقي لهذا المقطع: "وكانتْ وجهةُ نظرِ الله أنَّه إذا كان أيوب لا يستطيع أن يفسِّر مثلَ هذه الأحداث العادية في الطبيعة، فكيف يمكنُه أن يفسِّرَ أو يستجوبَ الله؟ وإذا كانتِ الطبيعة لا تسيرُ حسبَ أفكارنا، فإنَّ مقاصدَ الله الأدبيَّة قد لا تكونُ حسْبَما نتخيَّل أو نتصوَّر." وحين أدركَ أيوب فيما بعد محدوديَّتَه كإنسان اعترفَ وقال: "قد علِمْتُ أنَّك تستطيعُ كلَّ شيء، ولا يَعْسُرُ عليكَ أمرٌ... بسَمْعِ الأذنِ سمعتُ عنكَ، والآنَ رأَتْكَ عَيني." (2:42 و5)
نعم يا صديقي، فحين تقسو الدُّنيا علينا أو نشعرُ بظُلمِ البشر أو حين نتعرَّض للمرض أو للتجارب المُرَّة، أو نرى ما يجري في عالمنا من حروبٍ وويلات، ماذا تُرانا نفعل؟ هل نقتدي بالمُشيرين قبلَنا ونتذكّر معهم بأنَّه بالحقِّ يوجد إله علّقَ الأرض على لا شيء وهو المسيطر على كلِّ شيء؟ وهو وحده الذي يعتني بخليقته حتى وإن كنا نعجزُ عن فهم ما يجري من حولنا بسببِ محدوديّتنا كبشر.
وأخيرًا لا بدَّ أن أذكُرَ كلمات المزمور 19 التي يصف فيه الكاتب كيف تشهد الخليقة، ولكن دونَ كلام. قال النبي داود: "السماواتُ تُحدِّثُ بمجدِ الله والفلَكُ يُخبر بعملِ يديه. يومٌ إلى يومٍ يذيع كلامًا، وليلٌ إلى ليلٍ يبُدي عِلْمًا. لا قولَ ولا كلام. لا يُسمعُ صوتُهُم. في كلِّ الأرض خَرج مَنطقُهُم، وإلى أقصى المسكونة كلماتُهم". هذه هي خليقة الله العجيبة التي تتحدَّث لكنْ بصمت، فتحكي لنا قصّةَ الإله السرمدي المحبّ، عندها تخشعُ النفسُ وكذا الروح معًا ويسلِّمُ القلبَ كلُّ من يسمع لهذا الخالق الحنَّان الذي صنع الإنسان وأحبَّهُ فأرسلَ ابنَهُ الوحيد ليفتدي البشر. فهل عرفتَ اسمَه واسمَ ابنِه؟ حريٌّ بك إذن أن تُخبرَ الناسَ عنه. أمَّا الترنيمة التي تتغنَّى بهذا الإله العظيم فتقول:
1- أراكَ إلهي أراكْ بما صنَعتْه يداك
فأَنشدُ فيك الهُدى يا إلهي، ويملأُ قلبي سَناك
القرار
إلهي، أراك إلهي أراك بما صنعته يداك إلهي أراك إلهي أراك
2- أراكَ بنورِ الصباحِ الحنون
بلونِ الأزاهير فوقَ الغصون
فأسمعُ صوتَك في كلِّ صوبٍ
وأصغي إليك بقلبٍ السكون
3- أُمتّع عيني بكلِّ الربوع
وأبصرُ فيها جمالَ يسوع،
محبَّةُ فاديَّ تغمرُ نفسي
فتبعثُ فيَّ التُّقى والخشوع
4- عرفتُكَ دومًا تَشعُّ ضياء
وفوق الصليب رجاءَ الفداء
سكنتَ فؤادي ونوَّرت فكري
فزالَ عذابي وزالَ الشقاء