قرأت الكتاب المقدس لأوّل مرة في نهاية السبعينيّات لأكتشف فيه حقيقة لم أعرفها من قبل ولم أدركها من دونه،
وهي أن الإنسان يولد خاطئًا وهو في حالة عداء مع الله ويحتاج إلى المصالحة معه وإلى السلام منه. صدمني هذا التعليم، لأكتشف فيما بعد واقعيّته وصدقه. أما حالة العداوة هذه فسببها خيارات الإنسان الأخلاقية الخاطئة التي تُفضّل النزوات والخطايا على طاعة مشيئة الله والانسجام معه. واكتشفت أيضًا أنّ الله لا يطيق الخطية ولا يقبلها أو يرحمها.
وهكذا تفصل الخطية بين الإنسان والله، "آثامكم صارت فاصلة بينكم وبين إلهكم، وخطاياكم سترت وجهه عنكم حتى لا يسمع". (إشعياء 2:59) وكيف للإنسان، في هذا البعد عن الله، أن ينعم بسلام الربّ؟ فالإنسان أسيرٌ لخطاياه، وعبدٌ لها، وعاجزٌ عن تحرير نفسه من أسرها ومن مضاعفاتها، ويستمرّ بالتالي في حالة العداء مع الله وفقدان السلام.
واكتشفت أيضًا أن الله، الذي هو "إله السلام"، يُريد أن يضع حدًّا لحالة العداء هذه فيستردّ الإنسان ويردّ إلى القلب المضطرب سلامه المفقود. وحتم الله بقلبه الرحوم أن يُعطي السلام للبشر بالمسيح. فالسلام لا يأتي إلّا من فوق. هو مُسبّبه وهو معطيه. السلام هبة الله للناس بالمسيح. (أفسس 14:2-17)
وجاء المسيح إلى العالم لإنجاز مهمّة إعادة السلام المفقود إلى قلوب البشر. وهي مهمة تشفّعيّة تهدف إلى تعليق الحكم القضائي على الناس، بأخذه مفاعيل هذا الحكم نيابة عنهم لينعموا هم بالمصالحة والسلام مع الله. لذلك رنمّت الملائكة يوم مولد المسيح: "المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرّة".
السلام في جوهر الإيمان المسيحي
إذًا المسيحيّة هي ديانة "السلام مع الله". فالسلام هو الهدية الأثمن التي يمنّ الله بها علينا في المسيح الذي يصالح العائدين إليه، المتضايقين من الابتعاد عن الله، مع الآب السماوي. يدخل هذا السلام قلب الإنسان لحظة تبريره من خطاياه بإيمانه بالمسيح. "فإذ قد تبرّرنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح". (رومية 1:5) في هذه الكلمات نرى جوهر الإنجيل. فعندما يُسلّم الإنسان بعمل المسيح السلامي يختبر في تلك اللحظة المباركة سلامًا عميقًا وهدوءًا وسكينةً وسعادة وراحةَ بالٍ لا مثيل لها إذ يُدرك أنه لا دينونة عليه بعدما قَبِل المسيح وسلامه. يفتقد الإنسان المعاصر هذا السلام أكثر من أي شيء آخر بينما يختبر المؤمن الحقيقي بالمسيح "سلام الله الذي يفوق كل عقل" الذي يحفظ قلبه وفكره في المسيح يسوع. (فيلبي 7:4)
ولسلام المسيح بُعدٌ أبديّ. هو سلامٌ خلاصيّ يبدأ هنا من لحظة الخلاص ويُكمَل هناك في السماء. إنه سلام لا ينقطع ولا يتوقّف ولا يُبطَل ولا ينتهي. ومن يختبر التبرير من خطاياه ينال سلامًا مع الله ويرتبط معه بعهدِ سلامٍ لا ينفصم. (حزقيال 25:34)
يحاول البعض ممارسة بعض الطرق، كاليوغا مثلًا، للوصول إلى السلام الداخلي، وذلك عبر إيقاظ الوعي الروحي والذهني والصلاة والتأمّل ومعرفة الذات. هل تمنحنا هذه الطرق حقًّا السلام المنشود؟ لقد جاء المسيح ليُعطينا سلامًا حقيقيًّا لا يعطيه أحدٌ في العالم. لا يتركنا نبحث عنه بطرق غير مضمونة. السلام هو علامة المسيحيّين ويطلب الرسول بولس منهم: "عيشوا بالسلام، وإله المحبة والسلام سيكون معكم". (2كورنثوس 11:13)
تحدّيات تُهدِّد السلام الداخليّ
يسكب الله على قلب المؤمن به سلامًا لا يتمتّع به أحد من خارج دائرة الإيمان. يقول النبيّ داود في مزاميره: "جعلتَ سرورًا في قلبي أعظمَ من سرورهم". (مزمور 7:4) يتضايق المؤمن ويتعب إذا انتفى لديه السلام. يبحث عن السبب، ليعالجه ويستردّ سلامه. ولا يطول الوقت حتّى يعود إله السلام ويُنعِم عليه بما يُطمْئِنه من نحو يومه وغده وأبديته. "وليملأكم إله الرجاء كلّ سرور وسلام في الإيمان، لتزدادوا في الرجاء بقوّة الروح القدس". (رومية 13:15)
هل يعني هذا أن الحياة ستخلو من الضغط والعداوات والإرهاقات والمخاوف والمتاعب والاضطرابات؟ هل يعدنا الله أن تخلو حياتنا، لحظة عودتنا إليه، من المشقّات وننعم بالسلام الكامل؟ كان يسوع واقعيًّا عندما قال لتلاميذه: "قد كلّمتكم بهذا ليكون لكم فيّ سلام. في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن ثقوا: أنا قد غلبت العالم". (يوحنا 33:16). بالواقع، يساعدنا اختبار الضيقات التي تحلّ علينا على أن نتدرّب بها فنحظى بمزيدٍ من السلام (عبرانيين 11:12).
قد تصيبنا أزمات الحياة بالخوف وبالاضطراب، نتلفّت من حولنا عند ارتفاع الموج الهائج، نخاف منه، ونكاد نغرق في لججه. وإذ بالمسيح يأتينا ماشيًا على الماء، قائلًا لنا: "تشجّعوا. أنا هو. لا تخافوا". (متى 27:14) هذا سلامي أعطيه لكم لأنكم تحتاجونه. وهو القائل لنا: "سلامًا أترك لكم. سلامي أعطيكم. ليس كما يُعطي العالم أعطيكم أنا". (يوحنا 27:14)
الاختبار العجيب
يعرف من اختبر السلام في المسيح أنه يفوق كلَّ تصوُّر. ولا بدّ لنا مع ذلك من الاعتراف بأننا لا نعرف كيف يعمل. قد نظنّ أنه لا يعمل في أزمنة الضيق والقهر. إلّا أن كلمته المقدسّة تؤكّد أنه يعمل دومًا. فحتى عندما أُخذ شعب الله في القديم إلى السبي كانت أفكار الله من نحوه أفكار سلام لا شرّ. (إرميا 11:29)
لا يعرف عمق هذا السلام إلّا من تصالَح ضميره مع الله وغُفِرت خطاياه. لا يتمتّع الأشرار بهذا السلام. "لا سلام قال الرّب للأشرار". (إشعياء 22:48) يكذب الشرير على نفسه عندما يدّعي نيله السلام وهو لم يُعالج موضوع الشرّ والخطيّة في قلبه. (إرميا 14:6)
نخلص إلى القول، إنّ من اختبر الرحمة الإلهية يتوحّد قلبه في خوف الرب فيهنأ بالطمأنينة والسلام. "ذو الرّأي المُمكَّن تحفظُه سالمـًا سالمـًا، لأنَّه عليك متوكِّلٌ". (إشعياء 3:26) وهو يعلم أن لا سلام خارج الربّ ومن دونه. ويصبح ذهنه وقلبه وإرادته وروحه ونفسه كلّها بسلام.