(البقية) تذمّرُ الجموع بسبب الكراهية والجهل
آية 7: "فَلَمَّا رَأَى الْجَمِيعُ ذَلِكَ تَذَمَّرُوا قَائِلِينَ: "إِنَّهُ دَخَلَ لِيَبِيتَ عِنْدَ رَجُلٍ خَاطِئٍ".
وقعت هذه الأحداث عندما زار الرّب يسوع أريحا قادمًا من منطقة الجليل، في طريقه إلى أورشليم لكي يتمّم الخلاص بموته الكفاري عن خطايا العالم أجمع. وأجرى الرّب يسوع قبل دخوله أريحا، عجيبة إعادة البصر لرجلٍ أعمى (لوقا 35:18-43؛ ومرقس 46:10-52).
يخبرنا الإنجيل المقدّس عن ردّ فعل النّاس الّذين رأوا بأعينهم عجيبة شفاء الأعمى: "وَجَمِيعُ الشَّعْبِ إِذْ رَأَوْا سَبَّحُوا اللهَ." (لوقا 43:18). لقد شاهدت جموع النّاس الرّب يسوع عندما شفى الأعمى، وسبّحوا الله، ثمّ تبعوا يسوع في أثناء سيره في شوارع مدينة أريحا، ولكنّ الجموع أنفسهم انقلبوا على يسوع لحظة دخوله بيت زكّا العشّار وتذَمّروا عليه.
يذكّرنا تذمّر الجموع بما نقرأه عن رجال الدّين في لوقا 2:15 "فَتَذَمَّرَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَالْكَتَبَةُ قَائِلِينَ: [هَذَا يَقْبَلُ خُطَاةً وَيَأْكُلُ مَعَهُمْ.]" لقد سبق وحدث نفس الشيء عندما أكل الرب يسوع مع لاوي وأصدقائه العشارين كما نقرأ في لوقا 29:5-30: "وَصَنَعَ لَهُ لاَوِي ضِيَافَةً كَبِيرَةً فِي بَيْتِهِ. وَالَّذِينَ كَانُوا مُتَّكِئِينَ مَعَهُمْ كَانُوا جَمْعًا كَثِيرًا مِنْ عَشَّارِينَ وَآخَرِينَ. فَتَذَمَّرَ كَتَبَتُهُمْ وَالْفَرِّيسِيُّونَ عَلَى تَلاَمِيذِهِ قَائِلِينَ: "لِمَاذَا تَأْكُلُونَ وَتَشْرَبُونَ مَعَ عَشَّارِينَ وَخُطَاةٍ؟"
يدلّ هذا التذمّر على ضيق أفق رجال الدين، وعلى احتقارهم للخطاة، غير عالمين أن مثل هؤلاء الناس هم أكثر إعوازًا للمحبّة والمعاملة الحسنة، لكي يتوبوا ويعودوا إلى الله.
نرى هنا جموع النّاس في منطقة أريحا، وهذا يشمل رجال الدّين، يتذمّرون على الرّب يسوع. وسبب تذمّرهم هو كراهيّتهم لزكّا رئيس العشّارين بسبب ظلمه لهم، وسلب أموالهم، وخيانته لهم ولوطنه بالعمالة مع الاحتلال الرّوماني. ولكن مجرّد وصفهم لزكّا بأنّه "رَجُلٍ خَاطِئٍ" لا يعني بأنّهم أفضل منه. لقد كانت خطايا زكّا علنيّة ومعروفة لجميع النّاس، ونتعلّم من وحي الله في الكتاب المقدّس بأن جميع النّاس خطاة، وبحاجة إلى نعمة الله من أجل خلاصهم.
نقرأ في رسالة رومية 23:3 الحقيقة الصّعبة: "إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ؟" وكذلك نقرأ في رومية 12:5 "بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ، وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ، وَهكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ."
كذلك تذمّرت جموع النّاس لأنّهم لم يفهموا هدف الرّب يسوع من دخول بيت زكّا. لقد أراد الرّب أن يعمل على خلاص زكّا، وتحريره من العبوديّة للمال، وبالتّالي كان دخوله بيت زكا عمليًّا لمصلحة الجموع الّتي تذمّرت عليه، فخلاص زكّا أدّى إلى أنّه أصبح إنسانًا جديدًا، وبدلًا من أخذ المال من النّاس، أصبح أكثر النّاس عطاءً في أريحا، حيث قدّم نصف ثروته للفقراء (لوقا 8:19).
نعرف من قراءة الكتاب المقدّس أنّ الرّب يسوع المسيح: "جَالَ يَصْنَعُ خَيْرًا وَيَشْفِي جَمِيعَ الْمُتَسَلِّطِ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ." (أعمال الرّسل 38:10) وفي أريحا، حرّر الرّب يسوع زكّا من حياة الخيانة والعبوديّة للمال، وكان عمله هذا مصدر خير وبركة لجميع المحتاجين والفقراء في منطقة أريحا.
ردّ المسلوب مضاعفًا لمستحقّيه
آية 8: "فَوَقَفَ زكّا وَقَالَ لِلرَّبِّ: "هَا أَنَا يَا رَبُّ أُعْطِي نِصْفَ أَمْوَالِي لِلْمَسَاكِينِ وَإِنْ كُنْتُ قَدْ وَشَيْتُ بِأَحَدٍ أَرُدُّ أَرْبَعَةَ أَضْعَافٍ؟"
نرى هنا عظمة التغيير الذي تمّ في حياة زكّا: فمن جامعٍ للمال إلى موزّعٍ للمال، ومن محتالٍ وغاشٍ، إلى أمينٍ وصادق؛ ومن ظالمٍ ومستغلٍّ للنّاس، إلى محبٍ ومعطاءٍ لهم. وهذا هو عمل نعمة الله الغنية في حياة الناس. عندما يتمّ الخلاص، لا يعود المال مركز تفكير الإنسان، بل يصبح لدى الإنسان رغبة حقيقيّة صادقة في استخدام ما لديه من مال لخدمة الله والناس. فكلّ أموال الدنيا لا تساوي لحظة مع الرب القدوس، كما قال ربّ المجد يسوع: "لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟" (متّى 26:16؛ مرقس 36:8). أما زكّا فقد ربح نفسه، ولذلك أعطى المال وبسخاء. والسّؤال هنا لكلّ واحدٍ من النّاس: هل قلوبنا متعلّقة بمحبّة المال؟ أم أن قلوبنا تلهج بمحبة الرب والنّاس؟ وهل يمكننا اليوم أن نعاهد الرب ونقول له: يا رب سأعطي من أموالي لخدمتك ولمساعدة النّاس، فخلاصي ومعرفتي بك هما أعظم كنزٍ في الحياة.
ردّ المسلوب: نقرأ في لاويين 16:5 "وَيُعَوِّضُ عَمَّا أَخْطَأَ بِهِ مِنَ الْقُدْسِ وَيَزِيدُ عَلَيْهِ خُمْسَهُ وَيَدْفَعُهُ إِلَى الْكَاهِنِ فَيُكَفِّرُ الْكَاهِنُ عَنْهُ بِكَبْشِ الْإِثْمِ فَيُصْفَحُ عَنْهُ". وكذلك نقرأ في سفر العدد 7:5 "فَلتُقِرَّ بِخَطِيَّتِهَا التِي عَمِلتْ وَتَرُدَّ مَا أَذْنَبَتْ بِهِ بِعَيْنِهِ وَتَزِدْ عَليْهِ خُمْسَهُ وَتَدْفَعْهُ لِلذِي أَذْنَبَتْ إِليْهِ". كان على المذنب أن يرد المبلغ الذي أذنب به، بالإضافة إلى خمُسه، إلى الذي أذنب بحقه. فمثلًا: إذا سرق رجلٌ خمسة دنانير، كان عليه أن يرد الدنانير الخمسة بالإضافة إلى خُمس هذا المبلغ، أي مع دينار آخر، فيكون المجموع بالتالي ستة دنانير. ولكننا نرى في قصة زكّا شيئًا مختلفًا تمامًا، فهو لم يردّ المبلغ وخُمسه، بل ردّ أربعة أضعاف المبلغ، أي أنّه إذا كان المبلغ المسروق خمسة دنانير، فإنّ زكّا قد أعاد عشرين دينارًا وليس فقط ستة دنانير. أي إن زكّا أعاد أضعاف المطلوب منه أن يردّه، ويدلّ عطاء زكّا على مقدار وأصالة التوبة التي حصلت في حياته، فقد تاب ونال خلاص الرب، وهذه هي ثمار التوبة الحقيقيّة.
وعمل زكّا يعني أنّه أطاع وصيّة الرّب يسوع القائلة: "فَاصْنَعُوا أَثْمَارًا تَلِيقُ بِالتَّوْبَةِ." (لوقا 8:3).