في المرة السابقة عرّفنا ما هو الذهن ورأينا ما فعلته الخطية فيه، والآن نستكمل حديثنا عن خصائص ذهن الإنسان الطبيعي:
- إن ذهن الإنسان الطبيعي يبالِغ جدًا في تقييمِه لحلاوة الخطية، ويُغيِّب عنه مرارة نتائجها، كما يُقال عن الخمر مثلاً: «حين تظهر حُبابها في الكأس وساغت مرقرقة (منظر وطعم جذّاب). في الآخر تلسع كالحية وتلدغ كالأفعوان» (أمثال 31:23-32). هذا ما حدث مع حواء حين أكلت من الشجرة، ومع يهوذا حين أسلم المسيح.
- حلاوة الخطية هذه تجعل الذهن أعمى عن أن يرى نور الإعلان الإلهي وروعة إنجيل الله.
- لا يقبل أمور الله ولا يفهمها، بل قد يعتبرها جهالة. «الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله لأنه (أو لأنها) عنده جهالة، ولا يقدر أن يعرفه (أو يعرفها)» (1كورنثوس 14:2).
- لا يستحسن إبقاء الله في دائرة تفكيره «وكما لم يستحسنوا أن يبقوا الله في معرفتهم» (رومية 28:1). فحتى إذا جاء الله إلى ذهنهم، هذا يجعل ضمائرهم تبكِّتهم فيستبعدونه سريعًا.
- مهما اتسعت دائرة تفكير الإنسان الطبيعي، وأحسن استخدام ذهنه، واتخذ من الحكمة البشرية منهجًا، واخترع وأبدع؛ فهذا لن يؤدّي به إلّا لمزيدٍ من الشعور بالفراغ والخواء. «ببطل ذهنهم» (أفسس 17:4) وهذا ما اختبره سليمان بعدما استخدم كل ما أُعطيَ له من عقل وحكمة بطريقة بشرية تحت الشمس وفي النهاية قرَّر:
«لأنّ في كثرة الحكمة كثرة الغمّ، والذي يزيد عِلمًا يزيد حُزنًا» (جامعة 18:1).
وإذا استخدم ذهنه في الدين، فسيكون منهج تفكيره ما يتصوّره هو أنه صحيح، ويفرح وينتفخ به «منتفخًا باطلاً من قِبَل ذهنِه الجسدي» (كولوسي 18:2). وهذا ما نراه في مثل الفريسي والعشار (لوقا 9:18-14). ونراه أيضًا في جميع الأفكار الدينية عند المتديِّنين في كل مكان. وهو أبعد ما يكون عن فكر الله، بل هو نتاج العقل البشري والذهن الجسدي.
هو ذهن فاسد: يقلب الأوضاع ويقاوم أمور الله ويستنتج عكسها «أناسٌ فاسدة أذهانهم» (2تيموثاوس 8:3).
هو ذهن متنجِّس:
يدور تفكير كثيرين من غير المؤمنين فيما يُشبِع شهواتهم فيفكِّرون دائمًا بطريقة نجسة ويحوّلون كل شيء للنجاسة «قد تنجّس ذهنهم أيضًا» (تيطس1: 15).
العقل ومسؤولية الإنسان
هل كل هذا يعني أن ذهن الإنسان الطبيعي عاجز ومستعبَد ولا يستطيع أن يفكر في الله وأموره بطريقة صحيحة أو يقدِّر خطورة تجاهله لله، وبالتالي طالما أن الإنسان عاجز فهو غير مسؤول؟!
نقرأ في الكتاب أن الإنسان مستعبد «لشهواتٍ ولذّاتٍ مختلفة» (تيطس3:3). وأيضًا هو مستعبد للخطية «كل من يعمل الخطية هو عبدٌ للخطية» (يوحنا 34:8). أي أنه عاجز، لا يستطيع التخلّص من الخطية والشهوات حتى إذا أراد. مع أنه ذهنيًّا يعلم، ويستطيع أن يفكِّر، ويعرف أن الخطية لها نتائج مدمّرة، وأنه يحتاج إلى المخلّص الذي يفكّ قيوده. لكن بسبب سيطرة الشهوات والحماقة والجهل وسوء استخدام الذهن، وليس عبودية الذهن، يستمرّ في طريقه ولا يطلب المعونة. لكن لا يوجد في الكتاب المقدس ما يسمَّى الذهن المستعبَد، أي العاجـز، عـن التفكير والتقـدير والمعرفة والقرار.
وعندما يستسلم الذهن للرغبات الداخلية لخدمة صاحبه، عندئذ سوف يكون منهج تفكيره الدائم بإرادته هو خدمة الملذات والطموحات واستبعاد الله «فيقولون لله أبعُدْ عنا وبمعرفة طرقك لا نُسَرّ» (أيوب 14:41).
لكن الكتاب يعلّمنا أن الذهن إذا عمل بحياديّة، في طاقته، يمكنه أن يستنتج الأمور الصحيحة الخاصة بعلاقة الإنسان بالله، فحتى في الأوساط الوثنيّة يمكن للذهن أن يقرِّر أن هناك إله خالق "إذ معرفة الله ظاهرة فيهم (أي في متناول أفكارهم) ... لأنهم لما عرفوا الله (بأنّ هناك إله) ..." (رومية 19:1-21). وإذا لم يفعل ذلك فالسبب ليس لأن ذهنه عاجز، بل لأنه لا يريد ذلك. فهو لا يريد أي عائق أمام ذهنه يحول دون إشباع شهواته. كما أن الرب امتدح أحد الكتبة الذي جاء إليه وسأله بحياديَّة: «أيّة وصية هي أوّل الكلّ؟" - أي الأعظم في الناموس - وسمع إجابة الرب، ثم ردّ عليه أيضًا بعقل حياديّ؛ "فلما رأى يسوع أنه أجاب بعقل، عندئذ قال الرب عنه وله: «لست بعيدًا عن ملكوت الله»". (مرقس 34:12)؛ وذلك لأنه استخدم عقله استخدامًا صحيحًا، فأجاب بعقل.
وكثيرون الآن يقفون، ولو لحظات، أمام الحقائق الأبدية الصحيحة، عندما تُعلَن لهم، إذا فكّروا فيها بجديّة. لكن بسبب غلاظة قلوبهم، سرعان ما يصرفون أذهانهم عنها، ويعودون بأفكارهم لرغباتهم.
من كل هذا، نستنتج أن الإنسان مسؤول أمام الله، مهما حاول الشيطان أن يعمي ذهنه، فهو يستطيع أن يفكِّر ويستنتج ويتّخذ القرار. ليس مطلوبٌ منه قوّة للتنفيذ، لأنه لا يستطيع وعاجز عن التنفيذ؛ لكن مطلوب منه القرار وليد التفكير الصحيح. وعندئذ يعطيه الرب الإمكانيات.