يتقدّم العالم بسرعة في عالم الدعاية والإعلانات، ومع هذا التقدّم تظهر العلامات المميّزة لمنتجات كثيرة.
فعلى سبيل المثال في بلدان كثيرة يمكنك أن تميّز بعلامة حرف M بلونها الذهبي أن هناك مطعم ماكدونالدز. فماذا يميز المسيحية؟ ما هي العلامة التي بها يَعرِف القاصي والداني أن مبنى أو مؤسسة أو حتى الشخص مسيحيًّا؟ إنه الصليب.
تخيّل أنك ذهبت لرحلة إلى أورشليم في سنة 34م مساء يوم الجمعة الذي صُلب فيه المسيح، فماذا كنت ترى؟ وتخيّل أن برنامج رحلتك يأخذك صباح الأحد التالي إلى البستان الذي فيه قبر يوسف الرامي، فماذا كنت سترى؟ لن ترى سوى الصليب الفارغ. فقد أنزلوا يسوع ووضعوه في القبر. ولن ترى في صباح الأحد إلا القبر الفارغ، فقد قام منه يسوع وخرج. وهكذا يمكننا أن نقول إن الصليب الفارغ والقبر الفارغ هما علامتا المسيحيّة الحقيقيّة. وفي التقاليد الإنجيلية، إذا وُجد صليب معلّق في كنيسة، فينبغي أن يكون بدون المسيح، فلم يعد المسيح على الصليب، كما أنه ليس في القبر، لأنه قام كما قال.
وعلينا أن نعترف أن هاتين العلامتين عند الكثيرين من المسيحيين هما علامتان جسديّتان حسّيّتان فقط. فالصليب تحفة تقتنيها من خشب أو حديد أو ذهب. والقبر مزار يحجّه الناس بغرض التبرّك والتقديس والسياحة الدينيّة، مع أن حقيقة الصليب الفارغ والقبر الفارغ تحمل الكثير من المدلولات اللاهوتية والخبرات العمليّة.
أولًا: الصليب الفارغ
رُفع المسيح على الصليب وظلّ هناك ست ساعات، وفي نهايتها قال: "قد أكمل" وأسلم الروح. "أنزلوه عن الخشبة ووضعوه في قبر". (أعمال 29:13) وصارت الخشبة بدون يسوع، أو أصبح الصليب فارغًا - فماذا يعنى هذا؟
تم العمل: رغم كل ما حمل الصليب من آلام جسديّة ونفسيّة وكفّاريّة، لكن المسيح كان ذاهبًا إليه بخطى ثابتة، بل وبسرور. فهو يعلم أنه قد أتى خصيصًا لأجل هذا الغرض، وهذا ما سجّله الوحي الإلهي عنه: "كما أنَّ ابنَ الإنسانِ لَمْ يأتِ ليُخدَمَ بل ليَخدِمَ، وليَبذِلَ نَفسَهُ فِديَةً عن كثيرينَ" (متى 28:20) "وحينَ تمَّتِ الأيّامُ لارتِفاعِهِ ثَبَّتَ وجهَهُ ليَنطَلِقَ إلَى أورُشَليمَ" (لوقا 51:9)
"الآنَ نَفسي قد اضطَرَبَتْ. وماذا أقولُ: أيُّها الآبُ نَجِّني مِنْ هذِهِ السّاعَةِ؟ ولكن لأجلِ هذا أتَيتُ إلَى هذِهِ السّاعَةِ" (يوحنا 27:12)
"فسألهُمْ أيضًا: [مَنْ تطلُبونَ؟] فقالوا: [يَسوعَ النّاصِريَّ]. أجابَ يَسوع: [قد قُلتُ لكُمْ: إنّي أنا هو. فإنْ كنتُم تطلُبونَني فدَعوا هؤُلاءِ يَذهَبونَ]". (يوحنا 7:18-8)
"ناظِرينَ إلَى رَئيسِ الإيمانِ ومُكَمِّلِهِ يَسوعَ، الّذي مِنْ أجلِ السُّرورِ المَوْضوعِ أمامَهُ، احتَمَلَ الصَّليبَ مُستَهينًا بالخِزيِ، فجَلَسَ في يَمينِ عَرشِ اللهِ". (عبرانيين 2:12)
وإلى جانب العمل الكفاري الفدائي الذي أنجزه المسيح بموته، كان الصليب بلا شك أوضح إعلان عن محبة الله للبشر، وكذلك محبة المسيح نفسه. أشار الرسول يوحنا إلى أقوال المسيح نفسه عن صلبه: "وكما رَفَعَ موسَى الحَيَّةَ في البَرّيَّةِ هكذا يَنبَغي أنْ يُرفَعَ ابنُ الإنسانِ، لكَيْ لا يَهلِكَ كُلُّ مَنْ يؤمِنُ بهِ بل تكونُ لهُ الحياةُ الأبديَّةُ. لأنَّهُ هكذا أحَبَّ اللهُ العالَمَ حتَّى بَذَلَ ابنَهُ الوَحيدَ، لكَيْ لا يَهلِكَ كُلُّ مَنْ يؤمِنُ بهِ، بل تكونُ لهُ الحياةُ الأبديَّةُ". (يوحنا 14:3-16). هنا يُبرز المسيح دور الآب في هذا العمل العظيم، حين كان يعبّر عن محبّته للعالم بهذه الكيفيّة الرهيبة، ويترجم الرسول بولس موقف الآب هذا بكلمة غريبة، لكنها صحيحة إذ يقول عنه: "الّذي لَمْ يُشفِقْ علَى ابنِهِ، بل بَذَلهُ لأجلِنا أجمَعينَ". (رومية 32:8) وربما كان في ذهن الرسول في ذلك الوقت ما تنبأ به إشعياء "أمّا الرَّبُّ فسُرَّ بأنْ يَسحَقَهُ بالحَزَنِ. إنْ جَعَلَ نَفسَهُ ذَبيحَةَ إثمٍ يَرَى نَسلًا تطولُ أيّامُهُ، ومَسَرَّةُ الرَّبِّ بيَدِهِ تنجَحُ". (إشعياء 10:53)
وكان على الصليب أيضًا إعلانًا واضحًا لمحبة المسيح للبشر. وقد شهد هو قبلًا "ليس لأحَدٍ حُبٌّ أعظَمُ مِنْ هذا: أنْ يَضَعَ أحَدٌ نَفسَهُ لأجلِ أحِبّائهِ". (يوحنا 13:15). ولم يكن شاول الطرسوسي وقتها ضمن الأحباء، بل كان في صف الأعداء، ولكنه شهد لهذا الحب الذي انتشله من ضياعه وضلاله إلى حياة جديدة في المسيح، فقال: "الّذي أحَبَّني وأسلَمَ نَفسَهُ لأجلي" (غلاطية 20:2). ورسول المحبة يوحنا لم ينسَ أن يعبّر عن سروره وشكره للمسيح "ومِنْ يَسوعَ المَسيحِ الشّاهِدِ الأمينِ، البِكرِ مِنَ الأمواتِ، ورَئيسِ مُلوكِ الأرضِ: الّذي أحَبَّنا، وقَدْ غَسَّلَنا مِنْ خطايانا بدَمِهِ، وجَعَلَنا مُلوكًا وكهَنَةً للهِ أبيهِ، لهُ المَجدُ والسُّلطانُ إلَى أبدِ الآبِدينَ. آمينَ". (رؤيا 5:1-6)
تحقّق الرمز: استخدم كتاب العهد الجديد وجميعهم يهودًا (باستثناء لوقا الطبيب) مفردات معروفة ومستخدمة في كتب العهد القديم. ومن هذه المفردات ما وصفوا به شخص المسيح وعمله، لكي يُظهروا أنه هو المرموز إليه بهذه الأمور. أنه حمل الله (يوحنا 29:1)، وخروف الفصح (1كورنثوس 7:5)، والقربان والذبيحة (أفسس 1:5)، ونسل إبراهيم (غلاطية 16:3)، ورئيس الكهنة (عبرانيين 16:4)، والهيكل (يوحنا 21:2) ... كانت كلّ هذه المصطلحات معروفة جيدًا لشعب الرب في العهد القديم، أرتبط معظمها بالعبادة ونظامها في ذلك الوقت، وتحقّقت كلّها في حياة المسيح واكتملت في صليبه. فبعد أن أُنزل يسوع من على الصليب وصار الصليب فارغًا، تمّت كلّ هذه الأمور واكتملت رسالتها التي كانت تهدف إلى المسيح. وقد لخّص الرسول بولس هذه الأمور في الناموس وخلص إلى النتيجة "إذًا قد كانَ النّاموسُ مؤَدِّبَنا إلَى المَسيحِ، لكَيْ نَتَبَرَّرَ بالإيمانِ. ولكن بَعدَ ما جاءَ الإيمانُ، لَسنا بَعدُ تحتَ مؤَدِّبٍ". (غلاطية 24:3-25) إن الصليب الفارغ يؤكد أنه طالما جاء المرموز إليه، فليس لنا حاجة بعد إلى الرمز.