قادَني فكري وقلَمي لأدوّنَ بعضًا من تأملاتي الشخصية لسنةٍ انقَضتْ
وعامٍ عَبَر. لكنَّني لم أتوقّفْ عند سنةٍ واحدةٍ مضَت، بل رحْتُ أسرحُ في دهاليز ذاكرتي لسنواتٍ وسنواتٍ خَلَتْ، فوجدتُ فيها المضيءَ البهيج، والمؤلمَ المُعتِم. وغُصْتُ في بحرِها الواسعِ الأرجاء فصرتُ أعبُّ من أمواجِها الهادئة الماضية تارةً، والحاضرة الهائجة تارةً أخرى. وإذا بي أقفُ أمامَ جَرْدةٍ صادقةٍ تتميَّز بالشَّفافيةِ والأمانةِ لم أُرِدِ التَّراجعَ عن الإفصاحِ عنها بِغَضِّ النَّظرِ إنْ كانتْ حزينةً أليمة، أو مُفرِحةً سعيدة.
وسألتُ نفسي كيف أبدأُ وماذا أقول على ضوءِ حاضرِ الحروب الذي نراهُ بأم ِّأعينِنا الآن على شاشات التلفاز ومواقعِ التواصل الاجتماعي؟ وما نسمعُه يُنقَلُ إلى المشاهد يَصُمُّ الآذانَ فعلًا من انفجاراتٍ أو هديرٍ للمسيَّرات والطائرات! فنرى وقعَها على الناسِ والعِباد، الكبارِ منهم والصغار؟ هذا الحاضرُ المأساوي أثَّر ويؤثِّر فيَّ لأنَّه استرجَعني إلى الوراء، لِيَستحضِرَ من ذاكرتي مشاهدَ الخرابِ والدَّمار والخوف والرَعب الذي عشناهُ في لبنان لسنواتٍ عديدة من جرّاء حربٍ شَعواء لا تزالُ آثارُها محفورةً في أعماقِنا، وذيولُها على أرض الواقع كما يبدو، ما فَتِئَتْ تتجذّرُ وتمتدُّ كالأخطبوطِ لتأخُذ منحىً آخَر أكثرَ خطورةً وتعقيدًا من السنين الفائتة!
وبينما أنا في خضمِّ هذه الأفكار التي تراودُني وتشغَلُ حيِّزًا من تفكيريَ اليوميّ، حضرْتُ الكنيسة يومَ الأحد مع الجمهور العابِد. فلفتَ انتباهي العددُ الأخير من الترنيمةِ الصلاة التي كانت تُرنَّمها الجوقة، وأتبعَها الجمهورُ بالقرار. حينَها انتابَني شعورٌ خاشِعٌ مَهيبٌ، بينما الجوُّ العالميُّ مشحونٌ بالحروب والقلق والألم والخوف وخاصةً الذي يعيشُه شرقُنا اليوم. أنشدَ المصلّون هاتفين: "فيكَ أجدُ راحَتي، فيكَ وجدْتُ رجائي، لنْ تدعَني أبعُدُ. لِذا فأنا أضعُ حياتي بينَ يديْكَ أنتَ وحدَك، فاهدَئي يا نفسي، اهدئي". Be Still My Soul. وهذا الشعورُ نفسُه ذكَّرني بترنيمةٍ أخرى أيضًا: "غالِبًا حينَ لا نجِدُ على الأرض بلْسَمًا للشفاء، هناكَ، أي تحتَ جناحَيْه، أجدُ راحَتي، وهناكَ أنعُمُ بالبركاتِ والعزاء." Under His Wings فاهدئي!
وتساءلتُ أتُراها هي المرةُ الأولى التي نشعرُ فيها بثقلٍ في نفوسنا؟ أليستِ الحروبُ والويلاتُ القائمةُ في العالم اليوم قديمةً قِدَم وجودِ الإنسان؟ بَلى بالتأكيد، لكنَّ الفرقَ الشاسعَ الآن هو أنَّنا نرى كلَّ ما يجري بأمِّ أعينِنا وبشكلٍ لحظيٍّ وسريع، كما ونسمعُ أصواتَ المدافع والصواريخ ونرى الهدْمَ ودمارَ الأبنية يحصلُ أمامَنا على شاشاتِ التلفاز. وهنا سُرعانَ ما مرَّت الصورُ والأحداثُ الأليمة التي اجتزتُ فيها والتي هي أشبه بفيلم سينمائي بسرعة البرق إذ ظلّت هناك مدفونةً في دهاليزِ ذاكرتي المعتِمة. واسترجَعَ الفيلمُ السريع هذا مشاعرَ الخوف والقلق التي اختبرتُها آنذاك. وإذ طالتِ الحربُ حسِبتُ تلك السنين سنينَ عِجافًا من حياتي، قبلَ أن نهاجرَ بالطَّبع ونتركَ على مضَضٍ الأهلَ والخلَّان والأصدقاء. لكن على الرغم من كلِّ ما قاسيناهُ من متاعبَ ومخاوف وتنقُّلات من مكانٍ إلى آخر، وكذلك من المخاطر الكبيرة التي تعرَّضْنا لها، حين كنّا نعبرُ بعضَ الطرقات التي كانت عُرْضةً للقنصِ المستمرّ بهدف الوصول إلى مكتب الإذاعة، وعَدا عن إصابةِ منزلِنا في الحدَث وسقوط الشُّرفة كلِّها والسقف من جرَّاء القذائف، نعم وأقول بالرَّغم من كل ذلك: لا يسعُني إلَّا أن أشكرَ الله على حمايته ورعايته العجيبة في كلّ تلكَ السنين، وعلى عظمَة أمانتِه معي إذ قوَّاني ومنحَني صبْرًا لكي أحتمِل. بالحق كان الربُّ لي عندَ ذاك ملجأً وقوةً، عونًا في الضيقات وُجِد شديدًا. كما قال المرنم. (مزمور 1:46) وأيضًا أهتف بجرأة لأقول: "كان الربُّ لي صَرْحًا وإلهي صخرةَ ملجأي". (مزمور 22:94) أي كانَ الربُّ ليَ البناءَ العالي الشامِخ المتَّصل بالسماء الذي تمسَّكتُ به فوجدتُ نجاتي.
دهليزٌ آخَر دخلْتُه بينَ تلك الدهاليز المتعرّجة في ذاكرتي فتذكَّرتُ من خلاله يدَ الرب الحارسة فقلت وأنَّى لي أن أنسى؟ حين دعَتْني الطبيبةُ منذُ سنين إلى إجراءِ فحصٍ طبِّي وعلى أثرِه اتَّصلتْ بي هاتفيًا لتقول: يجب إجراءُ عمليةٍ جراحية. صُعِقُتُ يومَها للخبر. أنا التي لم أدخلْ مشفىً قطّ ولم تُجْرَ لي أيَّةُ عمليةٍ جراحية. اضطربتُ عندها وخَشيتُ من العواقب وداهمَتْني كلُّ الظنون والمخاوف. ماذا لو؟! لكنَّني خلوتُ إلى نفسي وعُدْتُ إلى كلمة الله التي كانتْ بلسَمًا شافيًا لمخاوفي. فقرأتُ: "نحنُ لا نعلم ماذا نعملُ، ولكنْ نحوَك أعينُنا... قِفوا اثبُتوا وانظروا خلاصَ الرب معكم. لا تخافوا ولا ترتاعوا." (2أخبار 12:20 و17). مع أنَّ سياقَ الآيات لم يكنْ في منحى الشفاء، لكنَّني اتخذتُ هذه الكلمات لتكونَ وعْدًا صادقًا من الرب لي شخصيًّا. وأنَّ الله سيجتازُ معي في هذه الأزمَة. وذهبت إلى المشفى والسلام يملأ داخلي بشكل ملموس. وجرى كلُّ شيءٍ على ما يُرام. واستعدْتُ عافيتي بعدَ أسابيع قليلة. فعلًا يدُ الربِّ الحانية الممتدّة للشفاء والمعونة كيف أنساها؟ تمامًا كما قال المرنّم:
"كيف أنسى سِترَك طولَ السنين،
يدَك الحارسةَ في كلِّ حين
وقتَ حزني وقتَ ضيقي وسطَ أمواج الحياة،
صرْتَ حِصني ورفيقي،
صرْت لي بابَ النجاة."
هذا بعضٌ من كلّ وغَيْضٌ من فَيْضْ، نعم، وعبْرَ دهاليز ذاكرتي المتعرِّجة والمتشعِّبة كثيرًا، أرى يدَ الله القديرة خلالَ السنين والأعوامِ الغابرة والقريبةِ الماضية. ولا يسَعُني إلَّا أن أقول: "يا ربُّ، ملجَأً كنتَ لنا في دَوْرٍ فَدَوْر. من قبْلِ أن تولدَ الجبالُ، أو أبدأْتَ الأرضَ والمسكونة، منذُ الأزل إلى الأبد أنتَ الله... أيامُ سنينا هي سبعونَ سنةً. وإن كانتْ مع القوّة فثمانونَ سنة، وأفخرُها تعبٌ وبليَّة... إحصاءَ أيّامِنا هكذا علِّمنا فنُؤتى قلبَ حكمةٍ." (مزمور 90)
والآن مع بداية عام ٍجديد لا نعلمُ ما سيحملُه لنا من مفاجآت لكنَّني أَنشُد وأقول:
"لستُ أعلمُ ما قدْ يكونُ في غَدي،
لا أعلمُ لا أعلمُ
لا لستُ أعلم كمْ سيطولُ العمرُ بي.
لا أعلمُ لا أعلمُ.
(لكنَّني يا ضامِني أعلمُ أنك معي
وأنك بي تعتَني مهما يكونُ في غَدي)
لستُ أذكرُ يومًا به نسَيْتَني،
لا أذكرُ لا أذكرُ
لا لستُ أذكرُ تجربةً لم تنتهِ،
لا أذكرُ لا أذكُر.
(لكنَّني يا عاضدي، أذكرُ عطفًا ضمَّني،
حبًّا به سبَيْتَني، عونًا به رفعْتني)