انطلق الرّسول بولس في رحلةٍ من فلسطين إلى إيطاليا
بعد المحاكمة أمام الملك أغريباس. لم يمضِ في رحلة استجمام أو سياحة أو عمل، بل ليُحاكَم أمام قيصر روما، أسيرًا في سفينةٍ تحمل 276 راكبًا بينهم عسكر وقائد مئة وأسرى آخرون. وبينما نبدأ رحلتنا في العام 2025 نجد في رحلته المذكورة في سفر أعمال الرسل 27 دروسًا قيّمة.
1- نحتاج أحدنا إلى الآخر في رحلة الحياة: يجب أن نقرأ ما بين سطور الكتاب، لا يَذكر الطّبيبُ لوقا اسمَه، لكنّه يبدأ سرده للأحداث باستخدام صِيَغ المتكلّم الجمع في الآية الأولى، "فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الرَّأْيُ أَنْ نُسَافِرَ فِي الْبَحْرِ إِلَى إِيطَالِيَا، سَلَّمُوا بُولُسَ وَأَسْرَى آخَرِينَ إِلَى قَائِدِ مِئَةٍ مِنْ كَتِيبَةِ أُوغُسْطُسَ اسْمُهُ يُولِيُوسُ." لم يكن لوقا أسيرًا، لكنه اختار أنْ يرافق بولس ويعتني به، وسجّلَ لنا كأعظمِ مؤرّخٍ تفاصيل ما حدث خلال الرّحلة. كان معهما أيضًا "أَرِسْتَرْخُسُ، رَجُلٌ مَكِدُونِيٌّ مِنْ تَسَالُونِيكِي". وعندما توقّفت السفينة في صيداء، "أَذِنَ (قائد المئة) أَنْ يَذْهَبَ (بولس) إِلَى أَصْدِقَائِهِ لِيَحْصُلَ عَلَى عِنَايَةٍ مِنْهُمْ". فصار هؤلاء الصيداويّون واحة راحةٍ لبولس. أعنّا يا إلهنا لنكون مثل لوقا وأرسترخس وأهل صيداء، ندعم إخوتنا طوعًا في رحلة حياتهم العسيرة التي أُجْبَروا عليها، ربّما رحلة مرضٍ وزيارة أطبّاء، أو رحلة ثكلٍ أو ترمّل، يحتاجون إلينا فيها لكي نشجّعهم ونصلّي معهم ولهم، أو نرافقهم ونبقى بجانبهم إن أمكن.
2- موانئ هذا العالم الحسنة ليست حسنة.
الميناء هو المكان الذي تتوقّف فيه السفينة لتملأ حمولتها أو تفرغها. و"الْمَوَانِي الْحَسَنَةُ" ليست كاسمها و"لَمْ يَكُنْ مَوْقِعُهَا صَالِحًا لِلْمَشْتَى". قد نلجأ إلى موانئ العالم لنملأ سفننا، لكنّ مسرّاته ومباهجه تختفي في زمن الضيق والحاجة، عندما تهبّ رياح التحدّيات وتعلو أمواج الألم. يسوع هو وحده ميناء نفوسنا الآمن في بحر الحياة المضطرب.
3- لا تتسرّعْ فريح الجنوب يتبعها إعصار. أرادوا أن يتركوا "المواني الحسنة" لأنها لم تكن حسنة. تعبوا من الانتظار فقد "مَضَى زَمَانٌ طَوِيلٌ". كان بولس ينذرهم أنّ السَّفَر سوف يتسبّب بضررٍ للشّحن والسّفينة والنّاس، ومع أنه لم يكن بحّارًا ولكنه اكتسبَ خبرةً كبيرة في السَّفر، ويقول في موضعٍ آخر إنّ السفينة انكسرت به 5 مرات. لم يسمع له البحّارة، وأقلعت السفينة بعد الصّوم، وهو الصّوم الوحيد في العهد القديم، يوم الكفّارة ويذكره لوقا لأنه توقيتٌ معروف ما بين آخر سبتمبر وبداية أكتوبر، وحينها يصبح السَّفر خطرًا. اختار البحّارة مدينةً ثانية اسمها فينكس في جزيرة كريت، وعندما نسّمَت ريحٌ جنوبٌ رفعوا المرساة.
أحيانًا يشعر الشابّ أنه انتظر طويلًا للزواج، وربما يتسرّع في اتّخاذ القرار حالما يتعرّف على فتاةٍ تبدو ملائمة مثل "ريح الجنوب". وهكذا في أمور العمل عندما "يتيسّر الأمر" لنا فنبني عليه قرارًا كبيرًا يؤثّر على كثيرين.
ولكن ماذا حدث بعد الرّيح اللّطيفة؟ "رِيحٌ زَوْبَعِيَّةٌ يُقَالُ لَهَا أُورُوكْلِيدُونُ". كانت السفن تعتمد على الأشرعة في تلك الأيام ولم يكن فيها محرّكات، وعندما هاجت الزوبعة لم يعد البحّارة قادرين على التحكّم في السفينة، واستسلم الجميع للرّيح والموج، "فَلَمَّا خُطِفَتِ السَّفِينَةُ وَلَمْ يُمْكِنْهَا أَنْ تُقَابِلَ الرِّيحَ، سَلَّمْنَا، فَصِرْنَا نُحْمَلُ". ونحن نرنّم العبارة [سلّمنا فصرنا نُحْمَل] دلالةً على اتكّالنا على الله، ولكن الحقيقة أنه في النصّ الكتابيّ للسياق، لم يكن التّسليم بمعنى الإيمان، بل العجز عن عملِ أيّ شيء. تخيَّل أنك تقود سيّارة، وفقدتَ السيطرة على المكابح! شيء مرعب جدًّا، وقد تأثّر 276 شخصًا بقرار قائد السفينة... سوف تؤثّر قراراتك المهمّة في الحياة على جميع أفراد بيتك، وعلى من يعمل معك، وعلى إخوتك في الكنيسة.
في هذه السّنة الجديدة حريٌّ بنا ألّا نتسرّع كالأطفال في الكلام والتصرّف بل نتعقّل، لأنّ كلمةً واحدةً قد تهدمُ أشياءَ كثيرة بنيناها وعلاقاتٍ كثيرةً تعبنا فيها. "ليكن كلٌّ إنسانٍ مُسرعًا في الاستماع، مُبطئًا في التكلّم مُبطئًا في الغضب" (يعقوب 19:1).
4. كلُّ شيءٍ زائلٌ. "رَمَيْنَا بِأَيْدِينَا أَثَاثَ السَّفِينَةِ"، طرحوا الكلّ في البحر الهائج، الطّاولات والصحون، الكراسيّ والأسرّة والشّحن. ما أكثر الوقت الذي نضيّعه في ملء سُفن حياتنا وتنظيفها وترتيبها مع أننا سنرميه كلّه يومًا ما، أو يأتي بعدنا مَنْ يطرحه. حان الأوان لكي نخفّف. ماذا عن الطعام؟ لم يرموه في البداية ولكن رموه لاحقًا حسب العدد 38، "طَارِحِينَ الْحِنْطَةَ فِي الْبَحْرِ". هل نخزن الطعام في بيوتنا وكأنّ المجاعة قادمة لا محالة؟ هل نسعى كلَّ يومٍ من متجرٍ إلى متجرٍ لنملأ برّاداتنا وخزائننا؟
5. المؤمنون القدّيسون بَرَكةٌ لمن معهم. ظهر ملاك الله لبولس وشجّعه، ووعده بأنه سوف يهبه جميع المسافرين معه، وصار واثقًا بأنهم سيعثرون على جزيرة. ما أبعد الفرق بينه وبين يونان الذي بسببه هاج البحر لكنه ترك الجميع ونام في أسفل السفينة. كان بولس في تواصلٍ تامّ مع الله وسبب بركة ونجاةٍ لكلّ من معه. صلاتنا في العام الجديد أن يهبنا الله جميعَ المسافرين معنا، أهلَ بيوتنا وأصدقاءَنا وأقرباءَنا، العمّ والخال والعمّة والخالة وأولادهم، الذين صلّينا ونصلّي لأجلهم.
6. يجب أن نعتني بأجسادنا في رحلتنا وليس بأرواحنا فقط. كان المسافرون صائمين منذ 14 يومًا، ربّما من الخوف، وربما من صعوبة تحضير الطعام مع تخبّط السفينة المستمرّ، ولعلّ أمعاءهم كانت تنقلب كلّما ارتفعت السفينة وهبطت بتأثير الموج العنيف. لكنّ بولس قال لهم في الآية 34، "أَلْتَمِسُ مِنْكُمْ أَنْ تَتَنَاوَلُوا طَعَامًا، لِأَنَّ هَذَا يَكُونُ مُفِيدًا لِنَجَاتِكُمْ". وشكرَ الله أمامهم جميعًا ثم أكل، فتشجّعوا وأكلوا. عندما وصلت السفينة حطامًا في النهاية، كان على الجميع أن يسبحوا أو يركبوا على قطع من السفينة. كيف يمكن للصائم منذ أسبوعين أن يسبح أو حتى يطوف متوازنًا على وجه المياه؟ سوف يُغمى عليه من الإرهاق والتّعب. كانت كلمات بولس صحيحة تمامًا، فالطعام مدّ أجسادهم بالقوّة التي تلزمهم. لا تطالب الله بكلّ شيء بل اعمل ما في قدرتك. فالكتاب يعلّمنا، "فَإِذَا كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ أَوْ تَشْرَبُونَ أَوْ تَفْعَلُونَ شَيْئًا، فَافْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ لِمَجْدِ اللهِ." (1كورنثوس 31:10). يريدنا الله أن نكون أصحّاء، فأجسادنا هياكل الرّوح القدس السّاكن فينا، ويجب أن نعتني بها.
7. نهاية الرّحلة مضمونةٌ بكلمة الله. وعدهم بولس أنَّ الله سينجّيهم. بعضهم سبحَ، وبعضهم تمسّك بقطع السفينة المحطّمة، ونجا الجميع إلى البرّ، وهو جزيرة مالطة. ما أروع اللقاء عندما تنتهي رحلة حياة المؤمن بالمسيح ويلتقي بمخلّصه! وكما تقول التّرنيمة:
لست أدري هل سأجري عندما ألقى الحبيب
هل أهلّل أم أقبّل مَنْ فداني بالصليب؟
سنستريح مِنْ تعب الحياة، وسيمسح الله كلَّ دمعةٍ من عيوننا. يستحقّ مخلّصنا العظيم محبّتنا وطاعتنا وتكريسنا له في رحلة الحياة إلى أنْ نلقاه.