ترتبطُ حضارةُ الكتابِ المقدّس ورزنامتُهُ وأعيادُه ارتباطًا وثيقًا بالمواسمِ الزراعيّة
كارتباط الإنسان بالأرضِ التي خُلقَ وجُبِلَ منها ومن ترابها، وقد كانت الزراعةُ أوّلَ تكليفٍ لآدم ليعملَ الجنّةَ ويحفظها، كما كانت المهنة الأولى لابن آدم البكر بحسب ما تُخبرنا به الأصحاحاتُ الأولى لكتاب البدايات (التكوين).
يُخبرنا الرّبُّ يسوع المسيح عن الآب بأنّهُ الكرّام (يوحنا 1:15)، وأنه الزارع الذي يزرع زرعًا جيِّدًا (متى ١٣)، ونقرأ في مواقع كثيرة من الكتاب عن الحصادِ حرفيًّا وروحيًّا. وقد عُرفَت زراعة القمح والشعير والقطاني منذُ القِدم، وكان لمواسمِ حصادِها تقاليد وأعياد ومواسم مباركة، كما أنّها أُعطيَت معاني روحيّة كرمزٍ للبركة وتكثير الغلال ولا سيّما الحنطة والزيت والخمر.
عيدُ بواكيرِ الحصاد هو العيد الثالث في المحافل المقدّسة بعد عيدَي الفصح والفطير. يُحدّثنا سفر اللاويّين 9:23-14 عن باكورة الثمار، ويطلب منّا أن تكون أوّل حزمة أمام الرب للشكر والرضا، وتُرفَق بذبيحة خروفٍ حَوليٍّ صحيح ودقيق وزيت وخبز وفريك وخمر، وهذه كلّها من نتاج الأرض، ولنا في الحصاد وفي عيد الباكورة كثير من المعاني وهذه بعضُها:
أولًا: الحصادُ ابتهاجٌ وحياة
هذا العيد يحملُ في ثناياهُ الشّكرَ للربِّ الذي أعطى المواسمَ والحياة، فنُقدّمُ أمامهَ الحزمةَ الأولى من الحقول مُرفَقةً مع الذبائح والطقوس، أي أنَّنا نُبكّرُ في شكرهِ وإكرامهِ معترفين ومبتهجين بالحياةِ التي يعطينا إياها ويمدُّنا بها فنحنُ به نحيا ونتحرّك ونوجَد. كما أنَّ هذا العيد يرتبطُ ارتباطًا وثيقًا بالفصحِ ويوم الخمسين ويأتي بينهما، وتقديم هذه الحزمة الأولى للربِّ بواسطة يدَي الكاهن يعني تقديس كلِّ الحصاد. وكان هذا الحدث إشارةً ورمزًا لشخص المسيح الذي قدَّمَ نفسَهُ وحياتَهُ تقدمةَ سرورٍ للآب لكي يُباركَ الحصادَ كلّه (أي الكنيسة)، لأنه هو بنفسِهِ أشارَ إلى نفسه بأنه حبّة الحنطة التي ستقع إلى الأرض وستأتي بثمار كثيرة ولا تبقى وحدها (يوحنا 24:12).
فيسوع قد ذُبحَ على الصليب في يوم الفصح (١٤ نيسان) بدليل أنهم دفنوه على عَجَل في قبر يوسف الذي من الرّامة تحت حراسةِ الرّومان، وذهبوا ليأكلوا الفصح (يوحنا 28:18)، وفي اليوم الثالث (١٦ نيسان) يومَ باكورة الحصاد كانَ اليهودُ يتبادلون التهنئة بعيدِ الباكورة ابتهاجًا بالموسمِ القادمِ بينما كان التلاميذُ يتبادلونَ البشارةَ بقيامةِ المسيح ابتهاجًا بانتصار الحياة، وهذا ما جعلَ الروح القدس يؤكّد لنا عبرَ ريشة بولس الرسول بأن المسيح أثبتَ لنا في قيامتهِ بأنه قد صارَ "باكورةَ الراقدين" (١كورنثوس 20:15). فهو الحزمة الأولى ونحن الحصاد الذي سيكتمل خلال الموسم، ويضمّنا الآبُ يومَ القيامة إلى بيدرهِ وحضنهِ في السماء، فكيفَ لا نفرح ونبتهج بمُعطي الحياة! وكيف لا نحيا بموجب الحياة التي لنا في حزمةِ الباكورةِ هذه لأنها تمثّلنا جميعنا في يدَي الآب وتضمن لنا مكانًا لسنا بعيدينَ عنه.
لذلك يا أخي القارئ العزيز، اعتنِ بحزمتكَ فَرِحًا في هذه الحياة لأنَّ الباكورةَ قدْ كرّسَ لنا الطريق للفرح الأبدي في السماء.
ثانيًا: الحصادُ التزامٌ وتكريس
ما كانَ الحصادُ في الصيفِ ليأتي لولا التكريسُ والزرعُ والبذارُ في الخريف، وما كنَّا لنبتهجَ مجيئًا حاملينَ الحُزم لو لم نذهبْ بالدموع حاملينَ بذارًا في مباذرِنا واضعينَ أيادينا على المحراث ومثبّتينَ وجوهَنا نحو أورشليم كما فعل يسوعُ معلّمُنا، فيسوعُ أخذَ على عاتقِهِ أن يكونَ هو حبّةَ الحنطة التي سقطتْ إلى الأرضِ مُكرّسًا نفسَهُ بأقصى درجات الحبِّ الباذلِ من أجل حصادٍ وفير، فقد كرّسَ نفسَهُ مُسبقًا ومنذُ الأزل، وأكملَ هذا التكريس حتى وصلَ بنا للحصاد. وقد اختارَ الروحُ أن تكونَ الباكورةُ من غلالِ الشعيرِ، وهو طعام الفقراء والمساكينَ الذين لم تغفل عنهم عناية الخالق في الشريعة القديمة، بل تحدّثتْ عن الغريب واليتيم والأرملة والمسكين، وأمرتْ الحاصدينَ أن يتركوا زوايا حقولهم وكلَّ السنابل المتساقطة من شمائلِهم حتّى يلتقطها ويعتاش بها كلُّ هؤلاء (لاويين 9:19-١٠). وقد رسم لنا الوحي هذا في بعضِ قصص الكتاب ليشجعّنا ويعلّمنا. ففي قصةِ راعوث المؤمنة الموآبيّة مثلًا نجد أن بوعز قد أمرَ غلمانَهُ بأن لا يمنعوها من الالتقاط في حقله، بل ينسلوا لها من شمائلِهم ولا ينتهروها.. أليست هذه صورة مجيدة لشخص المسيح الذي جاء ليرفعَ المسكينَ ويقيمه، ويرحمَ الفقراء وأصحابَ العَوَز، أوَليسَ هذا دورنا اليوم لِننسلَ من شمائل حياتنا ولا ننتهرَ الفقراءَ، بل نكون لهم سببَ بركة وشِبع روحي ومادّي لأننا يدا الرب على الأرض وحاملينَ حضورَهُ وأحشاءَهُ. دعونا نرحم الفقير ونُقرض الربَّ بتكريس حصادنا وغلّاتنا لعمل مسرّة قلبه، منتبهينَ من تحذيرهِ (لوقا 34:6) فلا نُقرض مَن نرجو أن نستردَّ منه بل نعطي بسخاء كما أعطانا هو.
لذلك يا أخي القارئ العزيز، أُصلّي من أجلِ حزمتِكَ المكرّسةَ لتكونَ أنتَ أيضًا باكورةً في حقلِكَ، وسبب انتعاشٍ وقيامةٍ لكثيرينَ، ويبارك الربُّ أثمارَك الروحيّةَ.
ثالثًا: الحصادُ إنذارٌ وتحذير
رغم وجود البركات وفيضها ووفرتها في الحصاد، إلّا أنَّ الإنذارات والتحذيرات ليست بعيدة، فقد سمعنا من فمِ المعمدان مباشرةً عن المسيح يسوع بأنَّ رفشه في يدهِ وسينقّي بيدرَهُ ويجمع قمحَهُ إلى المخزن، وأما التبن فيحرقُهُ بنارٍ لا تُطفأ (متى 11:3)، وكانت النبوّةُ قد قالت قديمًا: "ما للتّبنِ مع الحنطة يقولُ الربّ؟" (إرميا 28:23)، وقد قالَ الربُّ علانيّةً بأنَّ الحصاد هو انقضاء العالم، وفيه سيُفصَلُ الزرع الجيّد (بنو الملكوت) عن الزوان (بنو الشرّير)، ولذلك علينا الانتباه لحقولِ حياتِنا وكلِّ المزروع فيها استعدادًا لحصادٍ مجيد.
إذًا يا أخي القارئ، احرص بأن تكون حزمتكَ مفعمةً بالقمحِ وخاليةً من الزوان، وتُدرك معي بأنّنا ماضونَ إلى بيدرِ الله يومًا ما وسنُعطيه حسابًا، وهنيئًا للحزمة التي تأخذُ يسوعَ (الباكورة) مثالَها وقدوتها! لأنه حينئذٍ ستُضيئ كالشّمسِ في ملكوت الآب.