المجلة
ما هو موقف المؤمن من المجتمع حوله؟ هل ينعزل عنه؟ على أساس أنه إنسان قديس، وعليه أن يبتعد عن كل ما هو شر وخطيئة؟ أم تراه ينخرط في المجتمع ويحاول التأثير عليه؟ وما هو الموقف الكتابي الصحيح من جهة هذا الموضوع؟
ليس مستغربًا أن نجد عددًا لا بأس به من المؤمنين بالمسيح، قد عزلوا أنفسهم عن العالم، وكوّنوا مجتمعًا خاصًا بهم. وحجتهم في ذلك، أنهم ينفصلون عن العالم الشرير الفاسد. سمعت أحد الوعاظ مرة يقول: "نحن المؤمنين نحب أن نتعامل مع المؤمنين من أمثالنا فقط، فنسعى لكي تكون أعمالنا اليومية مع المؤمنين، ولا نقيم علاقات اجتماعية إلا مع المؤمنين في كنيستنا. وقد نرسل أولادنا إلى مدارس وجامعات مسيحية. وهكذا تمضي الأيام دون أن تكون لنا أية شركة أو علاقة مع المجتمع من حولنا. وتساءل: هل هذا ما يطلبه الله منّا في الكتاب المقدس؟".
لقد كانت هذه مشكلة الفريسيين أيام الرب يسوع المسيح، فبحجة القداسة عزلوا أنفسهم عن المجتمع المحيط بهم، وأخذوا يدينون الآخرين. لا بل إنهم انتقدوا المسيح نفسه، وقالوا عنه إنه: "مُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ" (متى19:11). وتذمروا عليه قائلين: "هذَا يَقْبَلُ خُطَاةً وَيَأْكُلُ مَعَهُمْ!" (لوقا 2:15). لهذا هاجمهم الرب يسوع وفضح مواقفهم المتناقضة، ورياءهم الواضح. وبيّن في نفس الوقت الموقف الصحيح الذي يجب أن يتخذه المؤمن بالمسيح. إذ قال: "لأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ ذلِكَ؟ وَإِنْ سَلَّمْتُمْ عَلَى إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ، فَأَيَّ فَضْل تَصْنَعُونَ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ هكَذَا؟" (متى 46:5-47).
لكن الرب يسوع المسيح خطا خطوة أبعد من هذه بكثير عندما قال: "أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ، وَلكِنْ إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟ لاَ يَصْلُحُ بَعْدُ لِشَيْءٍ، إِلاَّ لأَنْ يُطْرَحَ خَارِجًا وَيُدَاسَ مِنَ النَّاسِ. أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ. لاَ يُمْكِنُ أَنْ تُخْفَى مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَل، وَلاَ يُوقِدُونَ سِرَاجًا وَيَضَعُونَهُ تَحْتَ الْمِكْيَالِ، بَلْ عَلَى الْمَنَارَةِ فَيُضِيءُ لِجَمِيعِ الَّذِينَ فِي الْبَيْتِ. فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ" (متى 13:5-16). كلُّنا يعلم أهمية الملح في الطعام وحفظه من الفساد، وأهمية النور في عالم الظلمة. لكن ماذا قصد المسيح بهذه الكلمات المعبّرة؟ هناك عدة أمور نلاحظها في هذه الآيات المقدّسة.
أولاً: التميّز والاختلاف
إن تأكيد المسيح أن المؤمنين بالمسيح هم ملح الأرض، ونور للعالم، يشير بشكل واضح إلى تميزهم الأساسي واختلافهم عن الآخرين. إن مجتمع العالم حقًا فاسد ومظلم، والمؤمنون يختلفون عنه كاختلاف الملح عن الفساد، واختلاف النور عن الظلمة. ولهذا على المؤمنين بالمسيح أن يكونوا ملحًا لكي يحاربوا الفساد، ويكونوا نورًا لكي يضيئوا في الظلمة. إن موضوع التميّز والاختلاف هو موضوع رئيسي في الكتاب المقدس بأكمله. إن الله دعا شعبه في العهد القديم وفي العهد الجديد لكي يكون له خاصة، ودعاه ليكون مقدّسًا أي شعبًا مفرزًا مختلفًا عن باقي الشعوب أو المجتمعات، وطلب منهم أن يكونوا قديسين لأني أنا قدوس. (راجع خروج 5:19-6، 1بطرس 9:2-10، و1بطرس16:1).
ثانيًا: عدم الانفصال عن المجتمع
صحيح أن المؤمنين بالمسيح متميزون ومختلفون عن مجتمعات العالم، لكنهم في نفس الوقت عليهم ألاَّ ينعزلوا أو ينفصلوا عن المجتمع، أي أن لا يكونوا منفصلين اجتماعيًا. بل على العكس ينبغي أن يكونوا ملحًا للمجتمع، أي أن يَنفذَ تأثيرهم إلى داخل المجتمع الفاسد. وأن يضيء نورهم في ظلمة هذا العالم. ولهذا قال الرب يسوع المسيح: لا خير في الملح إذا فقد ملوحته أو صار فاسدًا، ولا معنى للنور إذا وُضع تحت السرير أو تحت المكيال. وكما صلّى الرب يسوع المسيح في صلاته الشفاعية قائلاً إن المؤمنين به "ليسوا من العالم، كما أني أنا لست من العالم". لكنه في نفس الوقت قال: لست أسأل أن تأخذهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير" (يوحنا 14:17ب–15). وبتعبير آخر نحن لسنا من العالم لكن علينا في نفس الوقت أن نكون أو ننخرط في العالم. علينا كمؤمنين إذن ألاَّ ننعزل عن المجتمع حيث لا نستطيع التأثير عليه، بل علينا أن ننخرط فيه ونجعل نورنا يضيء، وهكذا يرى الجميع أعمالنا الحسنة.
ثالثاً: التأثير في المجتمع
قال الرب يسوع المسيح: "أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ. لاَ يُمْكِنُ أَنْ تُخْفَى مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَل". إن النور أو الضوء واضح جدًا ولا يمكن إخفاؤه، تمامًا كما لا يمكن إخفاء مدينة مبنية على جبل. وبمعنى آخر، إن كنيسة المسيح هي منارة حقيقية لمجتمعات العالم، منارة تحمل رسالة الإنجيل المفرحة، ورسالة المحبة والرجاء، والإصلاح والتغيير الاجتماعي الحقيقي. ولقد قامت الكنيسة المسيحية الحقيقية خلال القرون الحديثة بدور لا بأس به في مجال الخدمات الاجتماعية، لكن بشكل عام ما زالت الكنيسة المسيحية الحقيقية مقصّرة في هذا المجال. على المؤمنين الحقيقيين بالمسيح، لا أن يندمجوا بالمجتمع فقط، بل أن يؤثروا عليه، بحيث يُدخلون إليه المبادئ المسيحية المبنية على أساس المحبة والعدل، ويطبقون في حياتهم مبدأ المحبة العملية، بمساعدة الناس المحتاجين على جميع الأصعدة، ومحاولة النزول إلى مستواهم، والتخلّي عن حب الراحة.
قد يقول قائل: إن العالم فاسد ومظلم وسيبقى هكذا إلى أن يأتي المسيح ثانية. والجواب، إن هذه الحجة لا تلغي دورنا ومسؤوليتنا كمؤمنين الآن أن نكون ملحًا ونورًا للعالم، وأن نعيش المحبة العملية، ونحاول التأثير على المجتمع بقدر استطاعتنا.
رابعًا: عدم التماثل مع المجتمع
على المؤمنين الحقيقيين بالمسيح أن يحتفظوا في نفس الوقت بتميزهم واختلافهم عن مجتمعات العالم. إن اندماجنا في المجتمع ومحاولة تأثيرنا عليه، لا يعني بأي شكل من الأشكال أن نصبح مماثلين له، وأن نفقد هويتنا كمسيحيين. أي يجب أن نحتفظ بقناعاتنا المسيحية، ومبادئنا وقيمنا. إن خطر التماثل يهددنا وقد وقع به الكثيرون. إذ عندما يفقد الملح ملوحته، فلا يعود يصلح لشيء. وعندما يفقد النور وهجه، أو يوضع جانبًا، يختفي تأثيره على الظلمة أي على العالم.
لقد وضع لنا الرب يسوع المسيح كمؤمنين في الموعظة على الجبل، المبادئ السامية التي يجب أن نقتدي بها ونسلك على ضوئها. وفي نفس الوقت دعانا لكي "نطلب أولاً ملكوت الله وبرّه" (متى 33:6). وعندما نختار طريقه ونتبعه فعندئذ يحتفظ ملحنا بملوحته، ونورنا بإشراقه، ونكون شهوده وخدامه الفعالين، ونمارس تأثيرًا حيًّا على المجتمع، إذ نعيش المحبّة العملية التي يريدنا أن نسلك بها.
في الختام، علينا إذن أن نتخلى عن انعزالنا، وأن ننخرط في المجتمع من حولنا، محاولين التأثير عليه ومساعدته. لكن دون أن نتخلّى عن مبادئنا وقيمنا المسيحية الرفيعة.