كتب روحية
فهرس المقال
الفصل الأول
الله ا لواحد ثلاثة أقانيم
قبل أن أدخل بكل خشوع وإجلال إلى الكلام عن حقيقة الله عزّ وجلّ أرى لزامًا عليّ أن أمهد لذلك بتأملات مختصرة عن وجود الله.
وجود الله
لا يمكن إلا أن يكون الله موجودًا. هو واجب الوجود. وإلا فمن خلق هذا العالم بنواميسه الدقيقة؟ ومن خلقني أنا؟ ولمن أنا مدين بوجودي وكياني؟ إن الدليل على وجود الله موجود في كيان الإنسان الكافر الذي يرفع عقيرته منكرًا وجوده، إذ في داخله الضمير الذي هو صوت الله، وصوت الأبدية أيضًا في قلبه كما هو مكتوب "صَنَعَ (الله) الْكُلَّ حَسَنًا فِي وَقْتِهِ وَأيضًا جَعَلَ الأبديةَ فِي قَلْبِهِمِ" (جامعة 3: 11). وفي داخل الإنسان روح عاقلة ليست موجودة في الحيوانات، مصدرها الله ذاته كما هو مكتوب "وَلَكِنَّ فِي النَّاسِ رُوحًا وَنَسَمَةُ الْقَدِيرِ تُعَقِّلُهُمْ" (أيوب 32: 8). وبسبب نسمة القدير في الإنسان لا يشبعه العالم المادي كله، ولا يمكن أن يستريح قلبه أو يشبع إلا بالله. والغريزة الدينية قد وضعها الله في الإنسان دون سائر المخلوقات غريزة الرغبة في التعبد وغريزة الشعور بالضعف، وبالحاجة إلى الاعتماد على قوة أعلى منه، خصوصًا أمام الأهوال، وأمام المجهول، وأمام الموت حيث يحسّ الإنسان بحقارته، فإذا تعرّض للغرق أو للحريق مثلاً، يصرخ لاشعوريًا "الله" مستنجدًا بمن هو أعلى وأقوى منه.
الفخاري يصنع الإناء الجميل الذي يتحدث عن دقة وبراعة صانعه، ولكن لا علاقة بين الإناء وبين صانعه. لكن الله صنعنا وهو دائم الاتصال بنا "إِذْ هُوَ يُعْطِي الْجَمِيعَ حَيَاةً وَنَفْسًا وَكُلَّ شَيْءٍ. وَصَنَعَ مِنْ دَمٍ وَاحِدٍ كُلَّ أُمَّةٍ مِنَ النَّاسِ يَسْكُنُونَ عَلَى كُلِّ الأرض وَحَتَمَ بِالأَوْقَاتِ الْمُعَيَّنَةِ وَبِحُدُودِ مَسْكَنِهِمْ لِكَيْ يَطْلُبُوا اللهَ لَعَلَّهُمْ يَتَلَمَّسُونَهُ فَيَجِدُوهُ مَعَ أَنَّهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا لَيْسَ بَعِيدًا. لأَنَّنَا بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ" (أعمال 25:17- 28).
ومن محبته للبشر أعلن ذاته لهم في كتابه، وكلّمهم "بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيمًا، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ" (عبرانيين 1:1).
لا يوجد إنسان عاقل ينكر وجود الله، ولكن "قَالَ الْجَاهِلُ فِي قَلْبِهِ: لَيْسَ إِلَهٌ" (مزمور 10:14). أي أنه يحاول أن يغالط نفسه ويُسكت صوت عقله. ويوجد سبب لهذا، يذكره الكتاب المقدس بعد هذه العبارة: "فسدوا ورجسوا بأفعالهم". فالعلة ليست في عقله لكن في قلبه الذي يحب الفساد والرجس وصوت الضمير في داخله يقول أن الله ديان لهذا الفساد. وكما تخفي النعامة رأسها في الرمال لكي تبعد عن عينيها منظر الصياد، هكذا الجاهل يرى أن خير مهرب من الدينونة هو أن يقنع نفسه أنه "ليس إله".
ويشهد الكتاب المقدس أن الوثنيين لم يجهلوا وجود الله "إِذْ مَعْرِفَةُ اللهِ ظَاهِرَةٌ فِيهِمْ لأَنَّ اللهَ أَظْهَرَهَا لَهُمْ لأَنَّ مُنْذُ خَلْقِ الْعَالَمِ تُرَى أمورهُ غَيْرُ الْمَنْظُورَةِ وَقُدْرَتُهُ السَّرْمَدِيَّةُ وَلاَهُوتُهُ مُدْرَكَةً بِالْمَصْنُوعَاتِ حَتَّى إِنَّهُمْ بِلاَ عُذْرٍ. لأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا اللهَ لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِلَهٍ بَلْ حَمِقُوا فِي أَفْكَارِهِمْ وَأَظْلَمَ قَلْبُهُمُ الْغَبِيُّ. وَبَيْنَمَا هُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ حُكَمَاءُ صَارُوا جُهَلاَءَ وَأَبْدَلُوا مَجْدَ اللهِ الَّذِي لاَ يَفْنَى بِشِبْهِ صُورَةِ الإنسان الَّذِي يَفْنَى وَالطُّيُورِ وَالدَّوَابِّ وَالزَّحَّافَاتِ. لِذَلِكَ أَسْلَمَهُمُ اللهُ أيضًا فِي شَهَوَاتِ قُلُوبِهِمْ إلى النَّجَاسَة" (رومية 19:1-24). فهم عرفوا الله ولكنهم لم يمجّدوه، والسبب في ذلك هو شهوات قلوبهم ونجاستهم. وقد قال أيوب عن مثل هؤلاء: "فَيَقُولُونَ لِلَّهِ: ابْعُدْ عَنَّا. وَبِمَعْرِفَةِ طُرُقِكَ لاَ نُسَرّ" (أيوب 14:21). فهم لا ينكرونه ولكن يبعدونه عن أنفسهم. أو يريدون أن يقطعوا قيوده ويطرحوا عنهم ربطه (مزمور 3:2).
فالعقل السليم يستطيع أن يعرف وجود الله ولكنه يعجز عن معرفة ذاته وحقيقة كيانه وجوهره لأن العقل محدود، والله عظيم وغير محدود كما جاء في سفر أيوب: "أَإلى عُمْقِ اللهِ تَتَّصِلُ أَمْ إلى نِهَايَةِ الْقَدِيرِ تَنْتَهِي؟ هُوَ أَعْلَى مِنَ السَّمَاوَاتِ فَمَاذَا عَسَاكَ أَنْ تَفْعَلَ؟ أَعْمَقُ مِنَ الْهَاوِيَةِ فَمَاذَا تَدْرِي؟" (أيوب 7:11-8). وأيضًا "عِنْدَ اللهِ جَلاَلٌ مُرْهِبٌ. الْقَدِيرُ لاَ نُدْرِكُهُ" (أيوب 22:37-23). من هنا لزم الإعلان الإلهي. لأنه لو لم يعلن الله ذاته لنا ما كنا لنعرفه.
وقد سُئل أحد علماء الصوفية: "ما الدليل على الله؟" فقال: "الله". ولما سُئل: "فما العقل؟" قال: "العقل عاجز. والعاجز لا يدل إلا على عاجز مثله". وقال ابن عطا: "العقل آلة للعبودية (أي للتعبّد) وليس للإشراف على الربوبية". وهذا صحيح تمامًا، لأننا نعبد الله بالروح وبالعقل "عِبَادَتَكُمُ الْعَقْلِيَّةَ" (رومية 1:12). ولكننا نعرفه بموجب الإعلان الإلهي، ونؤمن به بالقلب: "إِنِ اعْتَرَفْتَ بِفَمِكَ بِالرَّبِّ يَسُوعَ وَآمَنْتَ بِقَلْبِكَ" (رومية 9:10). أما العقل فينحني خاشعًا للإعلان الإلهي ولا يستطيع أن يعترض عليه لأنه ليس ضد العقل بل هو أكبر منه ويسمو فوقه.
ولنأخذ مثلاً بسيطًا على عجز العقل المحدود عن إدراك الله غير المحدود. هل يستطيع العقل أن يدرك "الأزل"؟ ليرجع العقل إلى ملايين الملايين من السنين، هل يكون قد وصل إلى شيء من أبعاد الأزل؟ كلا. لأن الأزل لا أبعاد له. وإذا ذهب الخيال إلى ملايين من السنين قبل التي وصل إليها أولاً، هل يكون قد وصل إلى شيء؟ كلا... وهكذا "الأبد". وما أصدق ما قاله أليهو: "هُوَذَا اللهُ عَظِيمٌ وَلاَ نَعْرِفُهُ، وَعَدَدُ سِنِيهِ لاَ يُفْحَصُ"(أيوب 36: 26). لقد أعطانا الله العقل لنفهم به خليقة الله ولنعبد به الخالق بخشوع، ولكن إذا تطاولت عقولنا محاولة لفحص الذات الإلهية فإننا نخسرها ونخسر أنفسنا.
إن الله هو خالقنا العظيم الذي أعطانا هذا الكيان الثلاثي العجيب المركب من الروح والنفس والجسد؛ هذا الكيان الذي لم نستطع للآن أن نحيط بكل أسراره ودقائقه. فمنذ القديم قد تفرّغ بعض العلماء لدراسة الطب ووظائف أجهزة الجسم، وتفرّغ آخرون لدراسة علم النفس، وآخرون لدراسة الروحيات وسرّ الحياة وما بعد المـوت، وللآن كل هذه الدراسات مستمرة ومتجدّدة، وتكتشف الجديد دائمًا ولكنها تعترف كلها أنها لم تصل.
والله هو أيضًا خالق السماوات والأرض وكل ما فيها، وواضع قوانينها وأسرارها وحافظ كيانها بكلمة قدرته. ومنذ القديم يوجد علماء تفرّغوا لدراسة علم الفلك والكواكب والفضاء، وآخرون لدراسة الجيولوجيا، وآخرون للطبيعة والكيمياء، وآخرون للهندسة والرياضيات، وآخرون للنبات والحيوان، وغير هذه من العلوم بشتى فروعها. ومنهم من كرس حياته كلها لدراسة علم الحشرات، وعلم الطفيليات، والمخلوقات الدقيقة التي لا تُرى إلا بالمجهر الإلكتروني، وجميعهم مع ما يصلون إليه من جديد يعترفون بأنهم لا يزالون على هامش المعرفة وعلى شاطئ محيط العلم[1].
فكم هو عظيم ذلك الخالق غير المحدود الذي يملأ السماوات والأرض ولا تسعه سماء السماوات، الأزلي الذي لا بداءة له والأبدي الذي لا نهاية له، غير المحدود في قدرته وسلطانه وفي علمه وحكمته، وفي كل شيء. أجل هو أعظم من أن يحيط به عقل الإنسان المخلوق المحدود.
ولقد أوجد الله في البشر غريزة دينية فأخذوا يتلمّسون الله لعلهم يجدونه، لكنهم لم يجدوه لأن الشيطان أعمى أذهانَهم، والخطية أظلمت قلوبَهم.
وهكذا جميع البشر بما فيهم الفلاسفة صنعوا لأنفسهم آله بحسب تصوّر عقولهم، أوثانًا أودعوا فيها صورة ما يظنون وما يتمنون أن يكون إلههم (أنظر رومية الأصحاح الأول). ويبين الوحي الإلهي جهلهم بقوله عن الذي يصنع الوثن "نَجَّرَ خَشَبًا. مَدَّ الْخَيْطَ... يَصْنَعُهُ بِالأَزَامِيلِ، وَبِالدَّوَّارَةِ يَرْسِمُهُ. فَيَصْنَعُهُ كَشَبَهِ رَجُلٍ، كَجَمَالِ إنسانٍ، لِيَسْكُنَ فِي الْبَيْتِ... غَرَسَ سَنُوبَرًا وَالْمَطَرُ يُنْمِيهِ... وَيَأْخُذُ مِنْهُ وَيَتَدَفَّأُ. يُشْعِلُ أيضًا وَيَخْبِزُ خُبْزًا، ثُمَّ يَصْنَعُ إِلَهًا فَيَسْجُدُ! قَدْ صَنَعَهُ صَنَمًا وَخَرَّ لَهُ. نِصْفُهُ أَحْرَقَهُ بِالنَّارِ. عَلَى نِصْفِهِ يَأْكُلُ لَحْمًا. يَشْوِي مَشْوِيًّا وَيَشْبَعُ! يَتَدَفَّأُ أيضًا وَيَقُولُ: بَخْ! قَدْ تَدَفَّأْتُ... وَبَقِيَّتُهُ قَدْ صَنَعَهَا إِلَهًا صَنَمًا لِنَفْسِهِ! يَخُرُّ لَهُ وَيَسْجُدُ وَيُصَلِّي إِلَيْهِ وَيَقُولُ: نَجِّنِي لأَنَّكَ أَنْتَ إلهي" (إشعياء 13:44-17).
أما الفلاسفة الذين لم يصنعوا لأنفسهم أوثانًا ليسجدوا لها إشباعًا لغريزتهم الدينية، فتساموا عن الأصنام المادية ورسموا في خيالهم كائنًا روحيًا عظيمًا جدًا يجلس على عرش كبير، ونسبوا إليه الوحدانية المطلقة. وهذه الوحدانية تتطلب أنه لا يتميز بمميزات، وليس بينه وبين ذاته نسب أو علاقات، وليس له ماهية أو كيان أو صفة من الصفات. ورغبة في تعظيمه بحسب فكرهم، والمحافظة على وحدانيته، نزّهوه عن كل شيء في الوجود حتى عن العلم والبصر والسمع. ولكن إلها مثل هذا يكون وهمًا لا حقيقة ويكون هو والعدم سواء، وذلك كالنقطة الهندسية الفرضية التي لا وجود لها. وإله خيالي مثل هذا لا يتصل بمخلوقاته ولا يراهم أو يسمعهم، هو والوثن سواء.
ولكن شكرًا لله لأنه يوجد فلاسفة آخرون كثيرون رأوا أن تنزيه الله عن كل شيء حتى عن أن يعقل ذاته، لا يعظّم الله بل بالعكس يجرّده من الكمال اللائق به، ولذلك وصلوا إلى أن وحدانية الله هي وحدانية جامعة، وإن كانوا قد تحيروا في إدراكها، كما سنرى عند اقتباس أقوالهم. وهذه الحيرة طبيعية، لأن الله فوق العقل المحدود كما أسلفنا القول. ولكننا إذا رمنا الحقيقة التي تستريح إليها نفوسنا وتطمئن بها قلوبنا، فلا يمكن أن نستمدها إلا من الله نفسه إذا كان قد شاء أن يعلن ذاته لنا، لأننا نحن لا نستطيع أن نصل إليه، أما هو فيستطيع أن يصل إلينا إذا شاء. وتبارك اسمه وتعالى لأنه شاء أن يعلن لنا ذاته وصفاته في الكتاب المقدس الذي أوحى به إلينا (أنظر الفصل الخامس).