كتب روحية
فهرس المقال
الفصل الثاني
المسيح هو ابن الله... هل هذا معقول؟
رأينا في الفصل السابق أن الله الواحد ثلاثة أقانيم الآب والابن والروح القدس، فالابن أقنوم إلهي أزلي. وموضوعنا الآن هو اسم "الابن" وما يقصد به، وهذا نجده معلنًا بوضوح في عدة فصول في الكتاب المقدس. وقبل كل شيء يجب أن نستبعد من أذهاننا بالتمام فكرة "الولادة". فالابن ليس مولودًا من الله في الأزل، لا ولادة روحية ولا طبيعية كما هو موجود في بعض الديانات الوثنية كديانة قدماء المصريين وغيرهم حيث يوجد إلاهات زوجات للآلهة وبناء عليه يوجد أبناء للآلهة، وهذا ما يعترض عليه الإسلام أن يكون لله ابن من "صاحبة". ولكن المسيحية بعيدة كل البعد، وسامية كل السمو عن هذا التفكير، إذ هي ديانة روحية من كل الوجوه في عبادتها "نَعْبُدُ اللهَ بِالرُّوحِ، وَنَفْتَخِرُ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، وَلاَ نَتَّكِلُ عَلَى الْجَسَدِ" (فيلبي 3:3)، وسلوكها بالروح "اسْلُكُوا بِالرُّوحِ فَلاَ تُكَمِّلُوا شَهْوَةَ الْجَسَدِ" (غلاطية 16:5)، وبركاتها "رُوحِيَّةٍ فِي السَّمَاوِيَّاتِ" (أفسس 3:1)، والتمتعات الموعود بها المؤمنون تمتعات روحية سماوية لا أرضية. وكذلك بنوة الابن الأزلية بنوة روحية فريدة تدل على المحبة، والمقام، والمعادلة للآب، وإعلان مجده وصفاته.
فأقنوم الابن هو المعلن لله الذي لا يمكن أن يعلنه سواه. "الله لم يره أحد قط. الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب [أي موضوع محبته] "ابن محبته" (كولوسي 13:1)] هو خبّر (أي أعلن الله)" (يوحنا 18:1). فالله الذي لا يمكن رؤيته يصبح من الميسور لنا رؤيته ومعرفته في أقنوم الابن: "اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ" (1تيموثاوس 16:3). "لإنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ اللهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (2كورنثوس 6:4)؛ الذي هو "بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ" (عبرانيين 3:1). وهو "صُورَةُ اللهِ" (كولوسي 15:1). لذلك قال لفيلبس: "اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأى الآبَ... صَدِّقُونِي أَنِّي أَنَا فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ" (يوحنا 9:14 و11).
ومدلول اسم "الابن" كمدلول "الكلمة" من حيث إعلان الله، فنقرأ: "فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ". ثم "ﭐلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا" (يوحنا 1:1 و14).
وبنوة المسيح الأزلية شهد بها الكتاب في العهد القديم أيضًا. وأول إعلان عن ذلك نجده في المزمور الثاني مرتين حيث نقرأ: "قَالَ لِي: أَنْتَ ابْنِي". وأيضًا "قَبِّلُوا الاِبْنَ لِئَلاَّ يَغْضَبَ فَتَبِيدُوا مِنَ الطَّرِيقِ" (عدد 7 و12). ثم في أمثال 4:30 "مَا اسْمُهُ وَمَا اسْمُ ابْنِهِ إِنْ عَرَفْتَ؟". وكان اليهود يعرفون أن البنوة تعني المعادلة لله، لذلك أرادوا أن يقتلوا المسيح لأنه قال: "إِنَّ اللَّهَ أَبُوهُ مُعَادِلاً نَفْسَهُ بِاللَّهِ" (يوحنا 18:5). ومرة أخرى عندما قال ذلك "فَتَنَاول الْيَهُودُ أيضًا حِجَارَةً لِيَرْجُمُوهُ. فَقَالَ يَسُوعُ: أَعْمَالاً كَثِيرَةً حَسَنَةً أَرَيْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَبِي - بِسَبَبِ أَيِّ عَمَلٍ مِنْهَا تَرْجُمُونَنِي؟ أَجَابَهُ الْيَهُودُ: لَسْنَا نَرْجُمُكَ لأَجْلِ عَمَلٍ حَسَنٍ بَلْ لأَجْلِ تَجْدِيفٍ فَإِنَّكَ وَأَنْتَ إنسان تَجْعَلُ نَفْسَكَ إِلَهًا". لأنه قال "أبي" (يوحنا 31:10-33). وقال له رئيس الكهنة عند محاكمته: "أَأَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ الْمُبَارَكِ؟ فَقَالَ يَسُوعُ: أَنَا هُوَ" (مرقس 61:14-62). وقد ورد اسم "الابن" في الكتاب المقدس أربعين مرة بخلاف ما ذكر مضافًا إلى الضمائر كقول الله "ابني"، وقول الوحي "أرسل ابنه". وذكرت كلمة "الابن الوحيد" خمس مرات في إنجيل يوحنا وفي رسالته الأولى. ولسمو مقام الابن ومعادلته للآب يقول الرسول يوحنا: "كُلُّ مَنْ يُنْكِرُ الاِبْنَ لَيْسَ لَهُ الآبُ أيضًا، وَمَنْ يَعْتَرِفُ بِالاِبْنِ فَلَهُ الآبُ أيضًا" (1يوحنا 23:2).
ويقول الله في المزمور الثاني: "أَنْتَ ابْنِي" أزليًا، بلا بدء ولا كيفية لهذه البنوة، لا ولادة ولا خلق. ثم يقول: "أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ" وذلك بالتجسد مولودًا من العذراء مريم. وقوله "أَنْتَ ابْنِي" قبل قوله "أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ" دليل على وجوده أزليًا قبل التجسد. ونجد هذا أيضًا في القول: "وَلَكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا" (غلاطية 4:4)، وأيضًا "أَرْسَلَ ابْنَهُ فِي شِبْهِ جَسَدِ الْخَطِيَّةِ"، أي في جسد مثلنا ولكن خال من الخطية (رومية 3:8). وهذه البنوة الأزلية تفوق العقل البشري، لذلك يقول المسيح له المجد: "وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الاِبْنَ إِلاَّ الآبُ".
(متى 27:11)
فللمسيح إذن بنوّتان: البنوة الأزلية التي تكلمنا عنها، وبنوته في الزمان بولادته من العذراء مريم حيث نقرأ قول الملاك جبرائيل لمريم: "اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ فَلِذَلِكَ أيضًا الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ" (لوقا 35:1). وهذه البنوة تختلف عن بنوة كل البشر والملائكة لله كمخلوقاته، وتختلف أيضًا عن بنوة المؤمنين الروحية لله كمن أخذوا طبيعته الأدبية "كُلَّ مَنْ يَصْنَعُ الْبِرَّ مَوْلُودٌ مِنْهُ" (1يوحنا 29:2). ولذلك يدعى المسيح "ابن الله الوحيد"، وأيضًا "ابْنٌ وَاحِدٌ حَبِيبٌ إِلَيْهِ" (مرقس 6:12). أما عن المؤمنين فيقال: "أَبْنَاءٍ كَثِيرِينَ" (عبرانيين 10:2). ولا يقول المسيح لتلاميذه: "أصعد إلى أبينا"، بل "إلى أَبِي وَأَبِيكُمْ" (يوحنا 20: 17)، لأن بنوّته متميّزة. والمؤمنون يدعون "أولاَدَ اللَّهِ" (يوحنا 12:1؛ 1يوحنا 1:3-2). وأيضًا "أبناء الله" (غلاطية 6:3). أما المسيح فيقال له "ابن الله" فقط، فلا يُقال: الوالد والولد، بل "الآب والابن". والمسيح وحده هو الذي يدعى "ابْنِ الآبِ" (2يوحنا 3) لأن بنوّته للآب أزلية "قَبْلَ كَوْنِ الْعَالَمِ".
(يوحنا 5:17)
ولا يجوز الخلط بين بنوة المسيح في الأزل، وبنوته بناسوته بالولادة من العذراء. ويشار إلى البنوتين معًا في المزمور الثاني، فالقول "أنت ابني" يشير إلى وجوده الأزلي كأقنوم إلهي، والقول "أنا اليوم ولدتك" يشير إلى بنوته لله بطبيعته الناسوتية الكاملة.
ونلخص فيما يلي بعض معاني بنوة الابن للآب:
1. تدل على المحبة الأزلية الفريدة (يوحنا 20:5؛ 24:17، كولوسي 13:1، 2يوحنا 3).
2. تدل على الوحدة في الصورة الإلهية (2كورنثوس 4:4؛ فيلبي 6:2؛ كولوسي 15:1؛ عبرانيين 3:1؛ يوحنا 9:14).
3. تدل على المعادلة لله (يوحنا 7:5؛ 33:10).
4. تدل على المقام الإلهي (يوحنا 23:5؛ 1يوحنا 23:2).
5. تدل على الوحدانية في جوهر اللاهوت "أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ" (يوحنا 30:10).
6. تدل على أنها وحدانية فريدة لا مثيل لها (يوحنا 18:1).
7. تدل على أنها وحدة سرية فائقة "لَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الاِبْنَ إِلاَّ الآبُ".
(متى 27:11)