في مسيرة الرعاية المسيحية التي انتدبنا الله القيام بها، يتعرّض الرعاة إلى وفرة من التجارب والهجمات الروحية التي يشنّها إبليس على خدام الرب. ولعلّ ما يقاسيه الرعاة من مثل هذه التجارب هو أشدّ هولاً مما يعاني منه المؤمنون الأعضاء، فالمثل يقول: [اضرب الراعي فيتبدّد القطيع.»
وهذا ما يستهدفه عدوّ النفوس من هجماته العنيفة لأنه يسعى دائمًا إلى هدم حصون، والقضاء على أبطال الإيمان. ولدينا في الكتاب المقدس أمثلة كثيرة على الانهزامات التي مُنيَ بها بعض رجال الله الأتقياء لأنهم في لحظات ضعفٍ تنكّبوا سواء السبيل، فسقطوا في التجربة وكان سقوطهم عظيمًا.
ويمكننا أن نعرض لبعض الشواهد الكتابية التي تُلقّننا دروسًا بليغة، نحن الرعاة، لتفادي مثل هذه السقطات، وإحباط مؤامرات إله هذا الدهر المتمرّس في جميع أساليب الخداع والممالقة، ومظاهر الصدق المزيّف الذي يُفضي دائمًا إلى الدمار. ومن جملة هذه الأحابيل:
الكلام المعسول، وهو الأسلوب الذي استخدمه الشيطان مع آدم وحواء، فقد أغراهما بإثارة مطامحهما، وشهوات نفسيهما، أوّلاً بالتمتّع بأكل ثمرة من أثمار شجرة معرفة الخير والشر لأنها بدت "جيّدة للأكل، وأنها بهجة للعيون، وأن الشجرة شهيّة للنظر." (تكوين 6:3) فانصاعا لرغبة الجسد، وأكلا منها. وثانيًا، لم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ، بل إن الشيطان أوحى إليهما أن الله كاذب في إنذاره لهما بالموت إن أقدما على الأكل منها لأنهما لن يموتا، بل إنه حرّمهما من تذوّقها لأنه "عالم أنه يوم تأكلان منه (أي الثمر) تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفَين الخير والشر." (5:3) وهكذا انصاعا إلى ما اختلج في قلبيهما من مطامعٍ ومطامح، وعصيا نهيَ ربهما، فنزل بهما عقاب الله شديدًا.
الطمع بالأمور المادية كما حدث مع عخان الذي تعدّى على وصية الله ونهيه عن الاستيلاء على ما حرّمه الله عليهم، إذ يقول الكتاب: "قَدْ أَخْطَأَ إِسْرَائِيلُ، بَلْ تَعَدَّوْا عَهْدِي الَّذِي أَمَرْتُهُمْ بِهِ، بَلْ أَخَذُوا مِنَ الْحَرَامِ، بَلْ سَرَقُوا، بَلْ أَنْكَرُوا، بَلْ وَضَعُوا فِي أَمْتِعَتِهِمْ." (يشوع 11:7)
نعم، عندما يُضحي المال معبودًا تتغيّر المعادلة في حياة الراعي، بل المؤمنين الذين سخّروا أنفسهم لعبادة هذا الإله، فانحرفوا عن رؤياهم الإلهية التي عهد بها الله إليهم فأصبح المال مطلبهم، وهكذا وقعوا في التجربة وخسروا البركة. أما مصير عخان الذي أقرّ بأنه هو الذي نقض العهد الإلهي فكان مصيره هو وعائلته جميعًا الموت رجمًا. ولشدّ ما أفلَ نجم عدد من الرعاة الذين استأسرهم المال، وانزلقوا في مهاويه ففقدوا تأثيرهم الروحي، وسقطت شهادتهم!
الطمع بالشهرة، وهي تجربة تولّد في النفس الكبرياء والغرور وتبعث على التسلّط. وقد أدرك الرسول بولس أهمية المواصفات التي يجب أن يتّسم بها راعي الكنيسة لمغزى هذا المركز وتأثيره البليغ في نفوس الأعضاء، فقال: "فيجب أن يكون الأسقف بلا لوم، بعل امرأة واحدة، صاحيًا، عاقلاً، محتشمًا، مضيفًا للغرباء، صالحًا للتعليم، غير مدمنٍ للخمر، ولا ضرّاب، ولا طامعٍ بالربح القبيح، بل حليمًا، غير مخاصمٍ، ولا محبٍّ للمال... غير حديث الإيمان لئلا يتصلّف فيسقط في دينونة إبليس..." (1تيموثاوس 2:3-6) وما يهمّني من جميع هذه المواصفات هو كلمة [تصلّف]. مع أن هذه المواصفة التي يحذّر منها الرسول رعاة الكنائس الحديثي الإيمان، إلاّ أنها في الواقع تنطبق على بعض ذوي الخبرة الذين حظوا بالشهرة، فاستباحوها، فولّدت في قلوبهم الإحساس بالفخر والترفّع، فاتّخذوا مواقف في رعاية الكنيسة وإدارتها مما لا يُرضي الله، وتنحرف عن روح المحبّة والوداعة. فمحبة الشهرة تنزع في معظم الأحيان إلى الرغبة في التسلّط، وهذه ليست من شيمة الراعي الصالح العامل على تنمية الكنيسة، بل تؤدي إلى التحزّبات والانقسامات، وهو أمرٌ مغاير لمطاليب الراعي المخلص.
الإذعان للرغبات الشهوانية: هذه هي الخطيئة أو التجربة القاتلة التي ألقت بمرتكبيها إلى الحضيض، والتاريخ الكتابي يرسم لنا صورًا رهيبة عمّا أسفرت عنه هذه الخطيئة في حياة بعض أعاظم رجال الإيمان، وما ترتّب عليها من نتائج مقيتة ليس في عينيّ الله فقط، بل في المجتمع أيضًا. ويمكننا أن نتناول قصتين من طيّات الكتاب المقدس ونعرض لهما على ضوء الواقع الروحي:
أولاً: شمشون ودليلة، بل مسيرة شمشون إجمالاً: فقد كان نذيرًا لله، يتمتّع بقوة جسدية هائلة، وأقامه الله قاضيًا ليدفع عن أمّته ظلم الفلسطينيين، وينقذهم من غوائلهم. ولفترة ما استطاع أن يضع حدًّا لتعدّيات الفلسطينيين لأن روح الله كان يكلأه بقوته. فانتصر عليهم وأرهبهم. ولكن عندما غلبت عليه الشهوة الجسدية، وانساق وراء أهوائه، سقط هذا الجبار في مستنقعات الخطيئة، وكشف لأعدائه بتأثير سحر جمال دليلة الزانية عن مصدر قوته، فخسرها ووقع أسيرًا بين يدَي الفلسطينيين، فقلعوا عينيه، وربطوه في السلاسل ثم لقي حتفه في هيكل إلههم داجون مع جميع المحتفلين آنئذ معه (راجع سفر القضاة 1:16-31).
ثانيًا: خطيئة الملك داود الثلاثية المناحي. أما قصة الملك داود فهي صورة حيّة عن الضعف البشري، وعتوّ الشهوات الجسديّة التي يتعذّر كبحها من غير قوة المسيح الساكنة فينا، فالملك داود المتعدّد الزوجات، الذي يملك من السراري عددًا كبيرًا، وقع في خطيئة الزنى مع زوجة أحد قوّاده المخلصين، وعندما حملت منه سرًّا وخافا الفضيحة، عمد داود إلى حبك مؤامرة ليقضي فيها على زوجها وبذلك يكون قد زنى، وتآمر، وقتل! ولكن خطيئته هذه لم تظلّ سرًّا مكنونًا بل كشفها الله للشعب، وأصبحت حديث الأمة بأسرها، ودفع داود الملك، صاحب المزامير، وقاتل جليات الجبار، والقائد المظفّر، ثمنًا باهظًا لجريمته النكراء. فتشرَّد، وقُتل اثنان من أبنائه، وتلوَّثت سمعته، ولولا توبته النصوح، ورحمة الله، وانكساره أمام خالقه لكان مصيره أردأ من مصير شمشون. لقد سجّل الوحي هذه "الوصمة" التي لطخت حياة داود ليلقّننا درسًا في نقاوة الحياة المسيحية وما يجب أن تكون عليه سيرة الراعي المعرّضة لأقسى التجارب، فيقاومها بقوة الروح القدس، فلا يستسلم لنوازعه، ويسيء إلى اسم سيده ومخلّصه الرب يسوع المسيح. فالقداسة هي شيمة الراعي الحقيقي، ومثلاً أعلى لرعيّته.
أخوكم في الخدمة المقدسة، صموئيل عبد الشهيد