"فَإِذْ حَصَلْتُ عَلَى مَعُونَةٍ مِنَ اللهِ، بَقِيتُ إِلَى هذَا الْيَوْمِ، شَاهِدًا لِلصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ. وَأَنَا لاَ أَقُولُ شَيْئًا غَيْرَ مَا تَكَلَّمَ الأَنْبِيَاءُ وَمُوسَى أَنَّهُ عَتِيدٌ أَنْ يَكُونَ." (أعمال 22:26-23)
كل مؤمن مدعو لأن يكون شاهدًا للرب. نقرأ في العهد القديم هذه الكلمات أكثر من مرة:
"أنتم شهودي، يقول الرب." (إشعياء 10:43) وقد قال الرب لتلاميذه: "وتكونون لي شهودًا." (أعمال 8:1) لقد كانت الشهادة هي الصفة المميّزة في حياة التلاميذ والرسل. وفي مطالعتنا لسفر الأعمال نجد أن كلمة "الشهادة" قد وردت ثلاثين مرة، وهذا إن دلّ على شيء، فإنه يدلّ على أهمية حياة الشهادة.
كان الرسول بولس هو الشاهد الأمين الحقيقي للرب يسوع، وكانت شهادته فعّالة ومؤثرة. وفي آيتنا يكشف لنا الرسول عن العلامات التي تميّز الشاهد الحقيقي:
أولًا- الشاهد الحقيقي هو الشخص الذي في فمه رسالة
تأمّل كلمة "أقول". إننا لا ننكر أن أقوى شهادة تؤثر في العالم هي شهادة الحياة، لكن ألا تكون هذه الشهادة أقوى وأكثر تأثيرًا وفاعلية حينما نعبّر عنها بشفاهنا أيضًا؟ "أرسل كلمته فشفاهم ونجاهم من تهلكاتهم." (مزمور 20:107) نعم، الحياة أولاً، ثم الشهادة بالفم بعد ذلك. ما أكثر أحاديثنا في مجالسنا عن كل شيء... فنحن نجيد الحديث عن الطقس، والسياسة، والغلاء، والأحوال الاقتصادية، لكننا كثيرًا ما نحجم عن التحدّث عن أسمى رسالة: رسالة الحياة الأبدية، وعن أسمى شخص: شخص ربنا يسوع المسيح. هل أنت شاهد حقيقي للرب يسوع المسيح؟ وهل في فمك رسالة تقدّمها للآخرين؟ أم أن لسان حالك ما قاله إرميا في القديم: "لا أعرف أن أتكلّم لأني ولد" (إرميا 6:1)؟
ثانيًا- الشاهد الحقيقي هو الذي يشهد للجميع بلا استثناء
يقول الرسول بولس: "شاهدًا للصغير والكبير"، وهذا يدل على أنه أينما ذهب كان يكلم كل إنسان عن سيده، لا يهمه إن كان السامع كبيرًا أو صغيرًا، فردًا أو جماعة، غنيًا أو فقيرًا، متعلّمًا أو جاهلاً، ملكًا أو صعلوكًا. لقد كان يعتبر كل شخص يقابله إنسانًا مات المسيح من أجله، ومن ثم يقدّم له رسالة الحياة الأبدية. كان شعاره: "صرت للضعفاء كضعيف لأربح الضعفاء، صرت للكل كل شيء لأخلّص على كل حال قومًا." (1كورنثوس 22:9) كم نحتاج إلى هذه الرؤيا المقدسة، وهذا التثقّل المبارك بالشهادة للمسيح!
ثالثًا- الشاهد الحقيقي هو الذي يستمر في خدمته رغم كل المفشلات
يقول: "بقيت إلى هذا اليوم شاهدًا." متى قال هذه الكلمات؟ لقد قالها بعد عشرين سنة من تجديده. وكم لاقى خلال هذه السنوات من تهديدات ومحاكمات؟ وكم صادفته معوّقات ومفشّلات؟ لقد جُلد مرارًا، ورُجم حتى الموت، وزُجّ به في السجن كثيرًا، ولكنه لم يفشل أو يتراجع عن خدمته، بل بالعكس زادته هذه الظروف إصرارًا على مواصلة الخدمة والشهادة.
هناك خطران يواجهان كل خادم: الأول هو "الغرور". فحينما ينجح الخادم في خدمته يصاب بالكبرياء ويفقد شهادته المؤثرة. والثاني هو "الفشل". فحينما تواجهه الصعوبات يتراجع عن الخدمة. فهل تسرّب الغرور إلى حياة الرسول بولس؟ وهل عرف الفشل؟ إن كان شيء من هذا قد حدث فإنه سرعان ما يتغلّب عليه ويواصل خدمته وشهادته. قيل عن وليم كاري أنه في بداية خدمته ظل يخدم لمدة سبع سنوات قبل أن يربح أول نفس للمسيح. شكرًا للرب على نعمة المثابرة والمواظبة على الخدمة بالرغم من المفشلات.
رابعًا- الشاهد الحقيقي هو الخادم الوفي لكلمة الله
يقول: "وأنا لا أقول شيئًا غير ما تكلّم الأنبياء وموسى أنه عتيد أن يكون." لقد كان بولس يؤمن بكل ما جاء في الكتب المقدسة، وكان يؤمن بالوحي المقدس (2تيموثاوس 16:3)، وأنه يجب أن يكرز بكل ما جاء فيه (رؤيا 18:22-19)، وأنه إعلان مشورة الله (أعمال 27:20). أين هذا الوفاء لكلمة الله من مبشّري ومعلّمي هذه الأيام الذين أهملوا الكتاب المقدس؟! تارة عن جهل، وأخرى عن قصد، مدّعين بأنه لا يساير العصر. لقد أعطانا المسيح المثل الأعلى في الوفاء للكتب المقدسة، إذ استخدم سلاح المكتوب حينما تقدّم إليه المجرّب ليجرّبه. وتحدّث إلى تلميذَي عمواس بعد القيامة مستشهدًا بما جاء في الكتب المقدسة (لوقا 25:24-27). ولقد بشّر الرسول بولس بالإنجيل الكامل (عدد 23) "أن يتألّم المسيح... ويقوم... ويظهر." وقد كرز بميلاده المعجزيّ، وبحياته وموته النيابي، وقيامته الظافرة، وأخيرًا بمجيئه الثاني. إن المهم ليس فقط أن نعرف الكتاب، بل أيضًا أن نعرف كيف نستخدمه بالطريقة الصحيحة لقيادة النفوس إلى شخص المسيح.
خامسًا- الشاهد الحقيقي هو الذي يقدّم الرب يسوع للنفوس
وهذا واضح في العدد 23، كما يقول الرب يسوع: "وتكونون لي شهودًا." (أعمال 8:1) إننا كثيرًا ما نخطئ خطأ جسيمًا حينما نشهد لكنائسنا أو جمعياتنا أو هيئاتنا. ينبغي أن يكون هدفنا في الخدمة والشهادة أن نقدّم الرب يسوع وحده للنفوس، وأن تكون غايتنا أن يتعظّم اسمه.
سادسًا- الشاهد الحقيقي هو الذي يحصل على معونة من الله
يقول: "فإن حصلت على معونة من الله بقيت إلى هذا اليوم شاهدًا." لقد كان هذا هو سر نجاح بولس في شهادته. إنه لم يعتمد على ذاته، أو علمه أو ثقافته أو حتى على مواهبه، بل على المعونة التي حصل عليها من إلهه. وهذا هو سر نجاح كل شاهد حقيقي للرب.
ولكن ما هي طبيعة هذه المعونة التي حصل عليها بولس والتي يحتاج إليه كل شاهد؟ إنها بلا شك معونة الروح القدس التي كان قد حصل عليها وتمتّع بملئها (أعمال 7:9). وقد أعلن المسيح – له المجد - هذه الحقيقة في قوله: "ستنالون قوة متى حلّ الروح القدس عليكم وتكونون لي شهودًا." (أعمال 8:1) لا بديل لمسحة الروح القدس إن كنا نريد أن نقدّم شهادة قوية ومؤثّرة. إن البلاغة والإثارة والبراعة في الخدمة لا تُغني عن مسحة الروح القدس. والرب يشطب على كل الوسائل البشرية إذ يقول: "لا بالقوة ولا بالقدرة بل بروحي قال رب الجنود." (زكريا 6:4)