كتب روحية
فهرس المقال
الكلمة الأولى: صلاة قصيرة
"فقال يسوع: يا أبتاه، اغْفِرْ لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون." (لوقا 34:23)
كتب H. G. Wells قصته المشهورة "وادي العميان" يحدثنا فيها الكاتب كيف ذهب رحّالة إلى وادٍ غريب أغلق عليه النور من كل جانب يعيش فيه قوم كلّهم عميان. عاش الرحالة مدة في هذا الوادي، لكنه كان غريبًا على أهله. قال عنه حكماء الوادي: "إن رأسه متأثر بأشياء غريبة تُسمّى العينين، وهاتان تجعلان رأسه في حالة دائمة من التوتر والاضطراب. وحكم أهل ذلك الوادي أن ذلك الزائر الغريب شاذ ولا يمكن أن يصبح طبيعيًّا حتى تُقلع عيناه. وتعرّف ذلك الرحالة على فتاة عمياء من أهل ذلك الوادي أحبها فطلبت منه أن يقلع عينيه حتى يعيشا معًا في سعادة بين سكان ذلك الوادي. ولكن ذات صباح رأى ذلك الرحالة شروق الشمس على قمم الجبال وكيف سطعت على الزهور بألوان أخّاذة فضاق به الأمر ولم يقدر أن يقتنع بحياة وادي العميان، فتسلّق الصخور وعاد إلى الأرض التي يعيش فيها الناس في النور.
والقصة التي أمامنا تصوّر لنا موقف الناس نحو يسوع عندما عاش في ظلمات خطية عالمنا الشرير. حسب الناس يسوع إنسانًا شاذًا. أرادوا أن ينزلوا به إلى مستواهم العادي ولما فشلوا في ذلك صلبوه.
وفي الجلجثة نقترب اليوم فنرى في دهشة التناقض بين قلب المخّلص المحبّ وقلوب البشر المليئة بالثورة والحقد. والجلجثة هي نقطة التركيز في الوحي والتاريخ والاختبار. ففي الجلجثة قدّم الله أفضل ما عنده بينما قدّم البشر أردأ ما عندهم. وفي هذه الجلجثة تبرر الإيمان وتأكّد الرجاء، وانتصرت المحبة. إن كل ما في الجلجثة من أحداث له دلالته، ولكن أروع ما فيها هذه "الصلاة القصيرة". حاول البعض أن ينكروا هذه الكلمة الأولى معتمدين أنها لم تأتِ في أقدم المخطوطات، ولكن يقول "روبرتسون" إن هذه كلمات يسوع لأنها لا يمكن أن تصدر عن شخص آخر، وهذه الألفاظ لا تناسب أي شفاه. وحاول التقليد أن يضيف كلمة ثامنة إلى كلمات يسوع السبع على الصليب. فعندما طعن الجندي جنب يسوع نظر يسوع إليه وقال: "يا صديقي، يوجد طريق أقصر إلى قلبي." ونحن نستبعد هذه الكلمات لأن يسوع وقت أن طُعن جنبه كان قد مات.
أولاً: يسوع يصلي على صليبه – دلالة الصلاة
إنه أمر محيّر حقًا أن يصلي يسوع تحت هذه الظروف. فالمكان ليس مكان صلاة والوقت ليس وقت صلاة. وكما نفكر نحن اليوم فكّر الناس في أيام يسوع. إنهم لم يعرفوا عن الغفران إلا القليل. فقد كان الرومان يعبدون الانتقام لأنه يعبّر عن القوة، وكان لهم إله اسمه "الانتقام." وكان الناموس العبري "عين بعين وسن بسن" و "دم بدم." وكان الأمر الطبيعي أن الضحيّة التي تعلَّق على الصليب تتلوّى من الألم وتلعن وتبصق على المارة، ولكن يسوع كان يصلّي من أجل أعدائه. وكيف لا تكون الجلجثة هي مكان الصلاة، والمسامير لم تقلع من يديه، ولا لعنات تُسمع؟ وفي هدوء البستان تألم يسوع، إذ نسمعه يقول: "لتكن مشيئتك."
كان الصليب هو اختراع العقل البشري الساقط الذي يريد أن يتشفّى في ضحاياه فيجعل الموت أكثر ما يمكن ألمًا. وكان المصلوب يُترك معلّقًا وهو محموم في حالة هذيان ونصف جنون، ولكن لم يكن أحد يفكّر أن الجلجثة هي أفضل مكان للصلاة.
1- إحساسه بالبنوّة: نرى أن يسوع في وسط الألم لم يفقد إحساسه ببنوّته لله. يقول James Stalker في كتابه [محاكمة وموت يسوع المسيح]: إن كلمة "أبتاه" تبرهن لنا أن إيمان يسوع لم يهتزّ من جراء ما مرّ به وما عاناه. فعندما يُداس البرّ بأقدام الناس وتنتصر الخطية يتعرّض الإنسان لزوابع الشك فيسأل: هل هناك إله محبّ وحكيم يجلس على الكون أم أن ما يحدث في عالمنا هو محض صدفة؟
ولكن عندما صُلب يسوع وأحاط به ذئاب بشرية من كل صوب، وكان غارقًا في بحر من الألم الشديد، لم يفقد ثقته بل قال: "يا أبتاه."
2- إحساسه بإرساليته: لم يفقد يسوع إحساسه بإرساليته بل ظل ثابتًا على خدمته. إنه لم يصلِّ "يا أبتاه اغفر لي." فقد عرف أنه "حمل الله (الذي بلا عيب) الذي يرفع خطية العالم." كان يسوع مخلصًا في اهتمامه بالآخرين. وإذ نتأمله على الصليب، لا نشك لحظة أنه جاء حقًا "ليطلب ويخلص ما قد هلك." إن يسوع لم يفكر في الأذى الذي لحق به من الآخرين، لكنه كان يفكر في الأذى الذي يؤذون به أنفسهم. "يا أبتاه، اغفر لهم." أيها الآب، لا تمسك رحمتك عنهم وإن أمسكتها عني.
3- استمراره في الصلاة: يقول البشير لوقا: "فقال يسوع". وقد وردت بصيغة فعل ماض مستمرّ، أي "فظلّ يسوع يقول." ولعل الصورة تكون في أذهاننا أنه عندما وصل يسوع إلى موضع الجمجمة ونظر حوله رفع قلبه وقال: "يا أبتاه، اغفر لهم لأنهم..."
وعندما دفعه قائد المئة لكي يوقع به على الأرض ويربط يديه على الصليب صلّى: "يا أبتاه، اغفر لهم."
وعندما وضعوا إكليل الشوك الذي مزّق جبينه صلّى: "يا أبتاه، اغفر لهم."
وعندما رفعوه على الصليب صلى: "يا أبتاه، اغفر لهم."
وعندما تجمهرت الجموع تسبّه وتلعنه قال: "يا أبتاه، اغفر لهم."
وعندما اقتسموا ثيابه وألقوا قرعة على ردائه صلّى: "يا أبتاه، اغفر لهم."
كم مرة ارتفعت هذه الصلاة لكي تمزّق حجاب السماء؟ لا أحد يعرف. إنها لم تكن التماسًا صوّبه في صياح وفي لحظة رحمة. ولكن الأصح، إن نبرة التأكيد كانت تقصف عرش النعمة عن طريق كوبري (جسر) الألم فكان يردّد: "يا أبتاه، اغفر لهم."
أي نبع نستقي منه الإيمان أروع من ذلك؟ إن الذي يصلي هو المخلّص الذي أحتاجه أنا كمخِّلص. ليتنا جميعًا نقترب منه ونطلب مكانًا في صلاته.
ثانيًا: يسوع يصلي على صليبه – عبرة الصلاة
إن معظم المؤمنين لا يفهمون هذه الصلاة. الصلاة لم تكن طلبًا للصفح عن خطايا الذين كانوا عند الصليب وإلا فما معنى قول المسيح "يا بنات أورشليم، لا تبكين عليّ بل ابكين على أنفسكنّ وعلى أولادكنّ، لأنه هوذا أيام تأتي يقولون فيها: طوبى للعواقر والبطون التي لم تلد والثديّ التي لم ترضع! حينئذ يبتدئون يقولون للجبال: أسقطي علينا! وللآكام: غطينا!" وكانت هذه نبوة لخراب أورشليم والخطاة الذين فيها.
وهذه الصلاة لا تنسجم مع العدل الإلهي والمنطق البشري. عندما يرفض الناس غفران الله لا يُفرض عليهم – الله ليس طاغية ولا يكون الإنسان ضحية. قَبِل يسوع الصليب حتى يعمل عدل الله ورحمته في انسجام مع الإرادة الحرة للبشر. إن صلاة يسوع لا تتجاهل نفس الشيء الذي جعل موته ضروريًا – لا غفران بلا إيمان – لا يُقحَم الصفح على الناس.
1) هذه الصلاة لا تبرر الجهل: في معظم الخطايا يوجد خليط غريب من الجهل والمعرفة. ربما كان بيلاطس يجهل يسوع، لكنه كان يعرف أنه بريء. ربما كان اليهود يجهلون يسوع أنه المسيا، ولكنهم كانوا يعلمون أنه سُلّم إلى بيلاطس حسدًا. قد يتجاوز يسوع عن الجهل مدة حتى يبدّده ويقلعه ولكن يسوع لا يبرر الجهل ولا يقبل الإهمال. الإهمال معناه الخطية والجهل معناه الخطية، ويسوع لا يتسامح مع الخطية.
2) هذه الصلاة ليست من أجل صالبيه
يقول البعض: ما دمنا قد خلصنا بموت المسيح، وحيث أن الذين كانوا عند الصليب هم الأداة في الموت، فمعنى ذلك أنهم السبب غير المباشر في البركة التي خلّصت العالم.
كلا! إن الذين صلبوا يسوع هم وكلاء إبليس "بأيدٍ أثمة صلبتموه." لقد قصدوا تحطيم العالم، ولكن الرب قصد به خير العالم.
3) هذه الصلاة كانت بديلًا عن الخطاة - بصفة إيجابية. لما قال: "اغفر لهم" كأنه يقول "أنا أتحمّل دينونتهم". عرف يسوع أن دَين البشرية كبير لا يوفيه غيره. وهنا يفرز نفسه لخلاصهم. وكأنه يقول للآب: "أضف خطاياهم على رصيد محبتي." "سأدفع أنا عنهم الدين..." "الذي لم يعرف خطية، صار خطية لأجلنا، لنصير نحن برّ الله فيه."
قد قضى ديني... كله الحمل حينما مات لذا، قال: قد كمل
4) هذه الصلاة كانت فاصلًا بين الجهل والمعرفة: لم تكن الصلاة من أجل يهوذا، فقد عرف أن سيده بريء ولم يكن جاهلاً. ولم تكن من أجل بيلاطس لأنه قال: "لم أجد فيه علة." فلم يكن لبيلاطس مكانًا فيها.
الجنود يجهلون يسوع... المارة يجهلونه... اللصان لم يعرف أحد منهما من هو ولم يعرفا شيئًا عنه – الجهال هم الذين لا يعرفون؛ يجهلون بلا تفكير وهم لا يعرفون - يهوذا وبيلاطس لم يجهلاه بل درسا تعاليمه ثم رفضاه. اللص لما دخلت المعرفة إلى قلبه طلب الخلاص، هذا اللص كان له مكانًا لأنه ميّز بين الخير والشر. المعرفة التي ترفض يسوع، لا يصرخ يسوع ولا يصلي من أجلها.
5) هذه الصلاة كانت طلبَ إيقاف دينونة خطاياهم حتى يدركوا معنى ما فعلوه أو عملوه. كان الطلب لا صفحًا بل تأجيلاً... "اتركها هذه السنة أيضًا." لاحظوا الكلمة المترجمة "اغفر"... معناها "دعوا" في عبارة [دعوا الأولاد]، ومعناها "أترك" في عبارة "أترك. لنرى هل يأتي إيليا ويخلصه!" "يا أبتاه، دعهم... أتركهم..."
كان الجميع يجهلون عظمة هذه الذبيحة على الصليب، حتى التلاميذ... ولكن لما ظهر الحق واضحًا بشّروا به ونادوا به للعالم، وكأني بالمسيح يطلب لهم مهلة من الآب. قال بطرس للذين صلبوه: "والآن أيها الإخوة، أنا أعلم أنكم بجهالة عملتم، كما رؤساؤكم أيضًا... فتوبوا وارجعوا لتُمحى خطاياكم، لكي تأتي أوقات الفرج من وجه الرب." (أعمال 17:3 و19)
استجاب الرب صلاة يسوع، فقد آمن به كثيرون... ولو لم يؤمنوا لكان عليهم أن يحملوا تبعة أعمالهم. كان الرب يصلي وهو يرى له شعبًا وسط الذين التفّوا حول الصليب. كان يطلب لهم تأجيل يوم القضاء والدينونة فلربما عرفوا وآمنوا بمحبته.
لماذا لا يضربنا الله عندما نسقط؟ لماذا يتأنّى الله على الخطاة؟ لماذا يسمح للعالم بالدماء والحروب بينما ينام العدل؟ يقول الكتاب: "لا تضلّوا! الله لا يُشمخ عليه. فإن الذي يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضًا." (غلاطية 7:6)