كتب روحية
فهرس المقال
الكلمة الثانية: وعدٌ مدهش
"فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ.»" (لوقا 43:23)
إن قصة هذا اللص التائب تُعتبر من أدهش وأروع حوادث الأناجيل. وحتى نستوعب هذه الحقيقة نعود إلى الوراء لكي نحيط بظروف القصة. كان المصلوبان معلّقَين كل واحد على صليبه، وكانت الدقائق تمرّ بالنسبة لهم كدهور طويلة من شدة الألم والعذاب. فقد ذهب تأثير جرعة الخلّ الممزوج بمرارة التي شربا منها. ويحدثنا البشير متَّى أن اللصَّين انهمكا في تعيير يسوع والتهكّم عليه: "خلَّصَ آخرين وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها! إن كان هو ملك إسرائيل فلينزل الآن عن الصليب فنؤمن به! قد اتّكل على الله، فلينقذه الآن إن أراد!"
وبينما انشغل هذان بالتجديف والسخرية كان يسوع يُمضي وقته في الصلاة قائلاً: "يا أبتاه، اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون."
وكان يسوع على الصليب في الوسط فقد حسبوه أجرم المصلوبين الثلاثة. وحتى ذلك الوقت كانت مأساة الصلب تسير سيرًا عاديًا كما سارت مع كثيرين من قبل. ولكن شيئًا ما حدث، ففي وسط سخرية التجديف واللعنات نال أحد اللصين أعظم هبة يمكن أن ينالها الإنسان. لقد حصل على وعد الخلاص في الدقائق الأخيرة من حياته. وهنا يقف اللاهوت المسيحي مندهشًا وهو يرى أعجب خلاص حدث في التاريخ المقدس. فقد نقض نظام الذبيحة والكفارة، وحصل اللص على خلاصه دون فريضة معمودية، أو عشاء رباني، أو انضمام إلى كنيسة، أو حتى إلى أعمال صالحة، وهدم عقيدة المطهر (مكان بين الجنة والنار لتطهير النفس بعد الموت). لقد نال ذلك الخاطئ الخسيس خلاصًا، وفي لحظة من الزمن تحوّل اللص إلى قديس يسكن الفردوس دون أن تلاحقه خطية واحدة من خطايا الماضي. ونقضت عقيدة الخلاص الجماعي، فقد نال واحد فقط غفرانًا دون كل العالم. إن يسوع لم يقل: "اليوم تكونون معي في الفردوس" بل قال بصيغة الفرد: "إنك اليوم تكون معي في الفردوس." وكذلك تصوّر البعض أن النفس تكون بعد الموت في حالة نوم، ولكن الدلالة الحاسمة للقصة أن اللص سيكون في شركة واعية مع مخلصه في الفردوس رغم دفن جسده في أي قبر من القبور. ونركز الحديث في نقطتين هامتين:
أولاً: صرخة الاستغاثة
لا يدرك كثيرون أن اللصين كانا يصرخان ليسوع. إن صراخهما صلاتين مختلفتين تطلبان انتباه يسوع والتفاته. فقد كان اللص غير التائب يصرخ طالبًا خلاص نفسه: "إن كنت أنت المسيح فخلّص نفسك وإيّانا." أما اللص التائب فقد عرض أن يضحي بنفسه وكانت كلماته تعني كالآتي: "أبقى على الصليب وأربح الملكوت." ونلاحظ أن اللصين أعلنا إيمانًا من نوع ما. فقد قال الأول: "إن كنتَ أنت المسيح..." ربما بدت في لهجته لغة السخرية، ولكن صيغة الجملة في اللغة اليونانية تفيد بأنه كان ينتظر إجابة وإن كانت العبارة كما لو كانت سؤالاً يحمل إجابته في ذاته. على أننا نرى تعبير الإيمان في لهجة هذا اللص الساخر أكثر من غيره، فكلماتها تشبه إلى حدٍّ كبير اعتراف بطرس "أنت هو المسيح ابن الله الحيّ." وعلى أقلّ تقدير عرف ذلك اللص أن يسوع له القدرة أن يغيّر حاله وله القدرة أن يرفض الصليب ويطلق اللصين من آلام الموت الجسدي. والحقيقة أن كلمات ذلك اللص لا تحمل أدنى إشارة للخطية أو الخلاص بل لعلها كانت محاولة للهروب من المصير المحتوم.
أما إيمان اللص التائب فيختلف عن ذلك. كان إيمانه يرتبط بملك وملكوتِه. أما الملك وملكوته فيعتمدان على نجاح تجربة القوة التي يجريها الملك على الصليب. وأقلّ ما كان يطلبه ذلك اللص هو أن يكون في الحسبان عندما يتبوّأ الملكُ مُلكه. لقد كان يرغب في نصرة يسوع رغم أنه لم يفهم كل تفاصيل شخصية يسوع. وكان يقدِّم ليسوع إخلاصه الشخصي وولاءه التام به. وهنا نرى استغاثة الخلاص من لعنة الخطية، ونرى قيمة الفداء. بل ونرى الزمن وكأن لا دلالة له أمام بحار الأبدية.
والفرق الواضح بين صلاة اللصين يعيد إلى أذهاننا تجربة البرية ومحاكمة جثسيماني. فقد كرّر اللص غير التائب كلمات الشيطان في تجربة البرية وفي إغواء حواء في الجنة. هل كان الشيطان يعيد الكرة مرة أخرى مستخدمًا كلمات اللص؟
إن القرارات التي نأخذها في حياتنا كثيرًا ما تكون موضع إعادة نظر، فهل قصد الشيطان أن يعيد المسيح النظر في نفسه؟ وهل كان كلام اللص بقصد أن يمتحنه أن يختار بين النزول عن الصليب أو قبول عاره؟
وقبل أن نجيب عن هذه الأسئلة نستطيع أن نتصوّر كيف وصل يسوع في اختبار الجلجثة إلى النقطة التي استطاع أن يتصوّر فيها الجزاء الذي يعطيه الآب لآلامه. وإن استطاع أن يشرب كأس الألم بنجاح فسيستطيع أن يكسب إخلاص اللص التائب وكل الخطاة الذين على شاكلته. والحقيقة أن ذلك اللص لم يكن يستحق الخلاص - وبالمثل كل اللذين على شاكلته.
تعالوا نتأمل لحظة في مكافأة آلام المسيح. إن النصب التذكاري لانتصار النعمة هو صوت اللص المعترف بجريمته. ففي تقديره الكامل لنفسه لم يكن يستحق شيئًا. "أما نحن فبعدل، لأننا ننال استحقاق ما فعلنا، وأما هذا فلم يفعل شيئًا ليس في محلّه." كان اللص يرغب في الخلاص، ليس بالضرورة من الصليب ولكن من خطاياه. ولا شك أن يسوع رأى ذلك وأحبّه. والعجيب أن كل المستهزئين وغير المهتمين بخلاصهم يشبهون اللص الآخر. إنهم يريدون أن يتجنّبوا الصليب ولا يبالون بخطاياهم. إن كثيرين من الذين يعترفون بالمسيح لا يذهبون إلى أبعد من ذلك اللص الهالك. إنهم يهربون من الصليب والألم والضيق – إنهم لا يرغبون في يسوع لشخصه. لكن انظر إلى اللص التائب وهو يقول ليسوع: "اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك." وهكذا لم تكن صرخة الاستغاثة التي أطلقها ذلك اللص سهمًا عشوائيًا أطلقه في الهواء دون هدف. بل كانت عاصفة من صرخات الاستغاثة، فقد ظلّ يقرع أذن المخلّص: "يا يسوع اذكرني..." وربما تأخر يسوع في إجابة اللصين على التماسهما، ولعله كان يوازن بين الأمرين. ولكن قفز إلى ذاكرته صورة الصراع الذي بدأه منذ المعمودية حتى جثسيماني. كانت هناك فرصة للنزول عن الصليب، ولكن هل تستحق النتيجة كل ذلك الألم؟ هل يستحق الأمر أن يُصلب من أجل خلاص لصّ؟ وكانت التجربة بالنسبة إلى يسوع أقسى ما يكون.
كان الألم يرتجف والسماء في انتظاره... لقد دخل إبراهيم وإسحاق ويعقوب إلى الملكوت على أمل الموعد "نسل المرأة يسحق رأس الحية"، وفوق ذلك نرى لصًّا يناديه: "إن كنت أنت المسيح فخلّص نفسك وإيّانا." ولص آخر ينادي: "اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك." اصنعْ لك ملكوتًا ولا تنساني أنا الخاطئ... تُرى، ماذا تكون إجابة يسوع؟ ماذا يختار؟
ثانيًا: استجابة الخلاص
وفي استجابة الخلاص أرجو أن نلاحظ أن استجابة يسوع لصراخ اللص التائب إجابة قاطعة ناهية، "فقال له يسوع: الحق أقول لك: ..." والفعل ماضٍ لحظيّ، أي قال له مرة واحدة، وانتهى الأمر، ولا حاجة للتكرار. فقد حدّد نظرته. وإجابته هنا تنقسم إلى قسمين:
1- مصير يسوع، قبول قضاء الصليب: "فقال له يسوع: الحق أقول لك..." وفي هذا إجابة للّصّين. رفض طلب الأول، وقال: "آمين" للثاني. يسوع يقبل صراخ الخطاة لأنه جاء يطلب ويخلّص ما قد هلك. وصيغة الإجابة في اليونانية تفيد أن يسوع قال، ثم صمت علامة على التركيز والاهتمام. الوقفة معناها "آمين، أو نعم". وكأنه يقول للّص: "سأمضي في معركة الملكوت... لن أخذلك... تستطيع أن تعتمد عليّ... سأنال قصاص الخطية... سأعود لك والفردوس في يدي... إنني أقبل صلاتك لأنك تحب ملكوتي ولا تبالي بعذاب الصليب. أما ذلك اللص الذي لا يفكر في الأبدية فلا شيء عندي له. أيها التائب، لقد أجبتُ طِلبتك. آمين لك... وليس له..."
واستجابة طلبة اللص معناها أن يسوع يقبل قضاء الصليب. ثم فيها قول زكريا: "استيقظ يا سيف على راعيّ، وعلى رجل رفقتي." كان السيف ينتظر كلمة "آمين" علامة على قبوله عملية الفداء ونهاية صراع موت الصليب.
ومعنى "قبوله الصليب"، أنه سيذهب إلى الآب وفي يده الصليب كي يضعه عند قدميه كتذكار لفداء البشرية... ومعنى ذلك عودة آدم إلى الجنة، وأيضًا معنى ذلك أن المحبة لم تفشل في العالم. معنى ذلك أنه لا يستطيع أحد أن يُنزل يسوع من على الصليب: لا قيصر، ولا السنهدريم، ولا الشيطان نفسه. وهنا في هذه النقطة العجيبة في خدمة الرب نرى أعظم معجزة في كل حياته، معجزة لا تساويها أية معجزة أخرى لأنها تشير إلى كمال إعلان التجسّد.
2- مصير اللص – القسم الثاني من الإجابة: "إنك اليوم..." لم يقدّم الكلمات بصيغة سؤال، "هل تريد أن تكون معي؟" إن يسوع لا يعذبنا بالأماني الخادعة بل يبهجنا بالإعلانات المباركة: "أيها اللص، أنا أتحدّث إليك شخصيًا وأعلن لك أنك اليوم..." وأتخيّل اللص يقول: "... لم أكن أطمع في إجابة الآن... كنت أرجو منه لحظة في المستقبل عندما يؤسس ملكوته، ولكنه قال لي: "إنك اليوم تكون معي..."
إن الفردوس لا يعرف الزمن... مفتوح دائمًا... لا ليل ولا نهار في الأبدية. إنها اليوم دائمًا. لن يرى اللص ليلاً أسودَ، لا صراخ ولا أنين ولا دموع... أيها الخاطئ، هل تعلم أن يسوع يحلّ مشاكلك اليوم وليس غدًا. إنه يلقاك اليوم... لذلك قال المرنم: "اليوم يوم خلاص..." وإن لا تبدأ حياة جديدة اليوم فلن تكون غدًا.
قال اللص: "اذكرني يا رب." وأجاب يسوع: " اليوم تكون معي في الفردوس." لا إلى لحظة أو سنة، ولا في الملك الألفي ولكن "معه إلى أبد الآبدين." إن الخلاص من الخطية هو اتحاد مع المسيح، أي شركة مع الذي اشترك بدمه على الصليب. فالخلاص هو شخصي، أن تقبل المسيح مخلصًا وفاديًا لحياتك. إن المسيح يدعوك ويقول لك: أيها التائب، إن كنت تفتّش عن مكان في قلبي فاقبلني أنا.
وقدّم المسيح فردوسًا لذلك اللص. وقد علّم اليهود بالفردوس، أي بعالم روحيّ بعد الموت وقسموه إلى سبعة سماوات. والسماء السابعة هي سماء الفردوس وفي وسطه شجرة الحياة. الفردوس كلمة فارسية معناها الحدائق المسوّرة. وكانت هبة ملوك الفرس لتكريم المقرّبين. هي نزهة في الفردوس مع الملك. وقد استجاب يسوع إلى نداء اللصّ. وهذه الاستجابة خير برهان على روعة الأمجاد. فهل نتوب عن خطايانا؟
أخذ الراعي يعظ ويحذّر من أخطار التسويف. ماذا لو شكّ اللص؟ ماذا لو أجّل خلاصه؟ فصاح أحد الحاضرين: ماذا تقول في اللص الذي تاب على الصليب؟ فأجاب الراعي: "أي واحد من الاثنين؟" إنه أمر خطير أن نؤجّل.
إن كنت بعيدًا عن نعمة الله، إنه مستعد أن يقبلك فلا تيأس. الرب مستعد أن يقبلك في أي وقت، حتى لو كنت على فراش الموت كما حدث مع ذلك اللص. لا تقل إن وقت خلاصي قد مضى... ولا تتعلّل أنك تقدّمت في السن فلا مكان لك. إن الله يرحّب بك ما دمت تفتح قلبك له بالتوبة. ما دمنا في حياة الجسد فهناك رجاء في الخلاص. فلا تفقد الأمل بل اصرخ: "اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك." وهو يجيبك: "اليوم تكون معي في الفردوس."