كتب روحية
فهرس المقال
الكلمة الخامسة: أنين ما بعد المعركة
"بعد هذا رأى يسوع أن كل شيء قد كَمَلَ، فلكي يتم الكتاب قال: [أنا عطشان]." (يوحنا 28:19)
عندما نطق يسوع بهذه الكلمات كانت الشمس قد عادت لتشرق بعد ظلمة دامت ثلاث ساعات. لم يكن أحد يظن أن الظلمة التي غطت الأرض ستنقشع. فقد كان رئيس سلطان الظلام يحاول أن يطمس شمس البر فلا تشرق... ولكن هيهات، فقد عاد النور ليسطع في الأرض وفي قلوبنا فنفهم صرخة "أنا عطشان" التي جاءت ما بعد المعركة.
والكلمة التي أمامنا تختلف عن غيرها، فقد أثار يسوع الانتباه إلى نفسه. في الكلمات الأخرى لم يطلب شيئًا لنفسه ولم ينتظر اعتبارًا خاصًا لذاته، ولكن ها هو في الكلمة الخامسة يقول: "أنا عطشان." والطلبة التي طلبها جسدية بحتة، فقد فهم الجنود طلبه لذلك قدّموا له الخلّ، وكان ذلك الخلّ نوعًا من النبيذ الذي اشتهر بأنه شراب العبيد والمساجين لا الأمراء والملوك.
إن عذاب العطش رهيب تعجز أمام وصفه اللغة، ولكن لا يُقارن بالعذاب الروحي الذي نتج عن ترك الله له – لم يكن هدف يسوع أن يثير الاهتمام بآلام الجسد – ولكن الأمر هكذا: لماذا سمح الله أن يغطي الظلام أبشع جانب من العذاب عن أعين الناس؟ رفض يسوع أولاً الخلّ الممزوج بمرارة حتى لا تتخدّر حواسه فيغيب عن وعيه، كان يريد أن يكون في كامل وعيه وصوابه. أما الآن فهو يشرب خلاً بلا مرارة. عندما صرخ: "أنا عطشان" لم يكن يطلب ماء من الجنود. لم ينتظر من الجنود شيئًا، بل أعلن حقيقة شعوره الفعلي بالعطش.
وفي عطش يسوع نرى حقيقتين:
أولاً: إنه يعلن نفسه بأنه الظافر المنهوك
أعلن يسوع نفسه كالظافر الذي أنهكته المعركة. وتتضح حقيقة هذا الإعلان من تقديم البشير: "بعد هذا رأى يسوع أن كل شيء قد كمل". وعبارة "بعد هذا" تدلّ على التوقيت. قالها بعد ساعات الظلمة البشعة. وبعد أن تمّ الجانب الرهيب من ذبيحة الفداء بأن "كل شيء قد كَمُل" التي تدلّ على عملية الألم البدلي، احتفظ يسوع بإعلان العطش حتى تمّ كل شيء. وكل شيء هنا هي ذبيحة الفداء... ذبيحة الصليب! لم يكن هناك شيء آخر يعمله، فقد قدّم جسده مرة واحدة إلى الأبد... سحق نسلُ المرأةِ الحيّةَ، انتهى الصراع مع سلطان الظلمة رئيس هذا العالم. "رأيت الشيطان ساقطًا مثل البرق..."
الصورة التي أمامنا صورة ظافر منهوك، أنهكته المعركة فوقف ينظر إلى عمله بعد أن انتهى. ولما رأى أنه حقق النصر للبشرية العاجزة التفت إلى جسده المتعطّش.
ينسى الإنسان إعوازه الجسدي وسط المشغولات الذهنية العنيفة. الحاجة إلى النوم أو الطعام التي تغيب وتذوب وسط الانحصار الذهني. وعندما ينفك الحصار يشعر الإنسان بما بذل من جهد وما حلّ به من تعب. ويسوع في وقت التجربة في البرية كان في جهاد روحي كبير، فلما انفكّ الحصار بعد أربعين نهارًا وأربعين ليلة جاع أخيرًا. والآن بعد انحصارٍ يعجّ ويموج بالآلام المُرَّة القاسية، شعر يسوع بالعطش. كان عطشًا شديدًا جارفًا غطت شدّته سائر الآلام، فقال وهو على شفا النهاية: "أنا عطشان."
في صورة الظافر المنهوك نرى الحنان. فقد سكب ماء الحياة الأبدية نفسه حتى الجفاف في جهنم الصليب. القتال مرير والنار تتلظى سعيرًا. قدّم كل ما عنده حتى تشوّه جسده وكان الموت هو الثمن الذي دفعه للنصر. وهكذا رد يسوع عدوّ الخير إلى الخلف.
في صورة الظافر المنهوك نرى عزاء وراحة. رد المقاوم عندما قال: "أنا عطشان". يقول كاتب الرسالة إلى العبرانيين: "لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت، أي إبليس، ويُعتِق أولئك الذين خوفًا من الموت كانوا جميعًا كل حياتهم تحت العبودية." وهنا نرى المحارب الذي أهمل نفسه واحتياجاته الشخصية حتى استطاع أن يمسح ميدان المعركة ويرى خصمه خاسرًا مهزومًا، وبعد ذلك بدأ يشعر بحاجته هو فقال: "أنا عطشان."
في صورة الظافر المنهوك لا شكوى. كان أمرًا مألوفًا أن يجزع المحكوم عليهم بالصلب، فيستعطفون ويتوسّلون بصراخ ودموع، وأحيانًا يهدرون تذمّرًا ولعنًا بشراسة. أما يسوع فلم يلفظ كلمة واحدة تنمّ عن الشكوى. حتى هذه اللحظة كان ضابطًا لنفسه محصورًا بالاهتمام بالآخرين والصلاة إلى الآب. المرة الوحيدة التي طلب فيها شيئًا كانت عندما قال: أنا عطشان.
في صورة الظافر المنهوك صبر رائع. إننا نخجل من أنفسنا لأننا بسهولة نتذرّع بأشياء تافهة لنبرّر تذمّرنا وضيقنا. ألم بسيط، صداع صغير يجعلنا نثور ونغضب. لقد انتصر يسوع بنبل على آلامه. هل نتبع مثال المخلص المتألّم في صبره؟
في صورة الظافر المنهوك لا تزمّت. لم يكن يسوع ضابطًا لنفسه عن تزمّت أو كبرياء. الناس يحملون الألم في صمت خشية شماتة الأعداء. كان حول يسوع أعداء أساؤوا إليه وفرحوا في بليّته. كان ممكنًا أن يكتم مشاعره ولا يسأل خدمة أو معروفًا، لكن يسوع قَبِل الشفقة من الجنود، كانت رسالته أن يكشف شيئًا حسنًا في الأشرار. إننا ننسب أحطّ الصفات لمن يختلفون معنا في الرأي ونرفض أن نسمع عنهم كلمة طيبة... لم تكن هذه طريقة يسوع... فقد توقع قطرات من الإنسانية في قلوب الرومان القاسية.
ثانيًا: إنه يعلن نفسه بأنه المخلص المنتظر
لما قال: "أنا عطشان"، أعلن نفسه بأنه المخلص المنتظر الموعود به في الكتب. قال البشير: "فلكي يتم الكتاب قال: [أنا عطشان.]" لم تتكهّن الكتب أن المسيا سيصرخ: [أنا عطشان] ولكنها تكلمت عنه في صورة العبد المتألّم. في مزمور 69 هناك نبوءة تشير إلى أنه في عطشه يسقونه خلاً، فلما صرخ يسوع من العطش كان يعلن عن نفسه أنه الوحيد الذي يتمّم صورة النبوّة عن المخلص المنتظر. يضع يسوع نفسه هدف داود: "وفي عطشي يسقونني خلاً." هل نجهل يسوع في مزمور 69؟ اقرأ الأعداد 1-4؛ و7-9؛ و19-21. لم يكن الماء هو الشيء الوحيد الذي صرخ من أجله يسوع بل إنه الاعتبار. أراد أن يعلن أنه المصالِح الذي تكلم عنه أيوب: "ليس هو إنسانًا مثلي فأجاوبه، فنأتي جميعًا إلى المحاكمة. ليس بيننا مصالح يضع يده على كلينا."
سأل إسحاق على جبل المريّا: "أين الخروف للمحرقة؟" وعند الصليب يصرخ يسوع: "أنا عطشان" لكي نعرف أنه "هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم." هذا هو بديل إسحاق!
جاء حكماء المشرق يسألون: "أين هو المولود ملك اليهود؟" وها هو الملك على الصليب يصرخ: "أنا عطشان"، والكتابة على الصليب تقول: "هذا هو ملك اليهود." وهل يوجد ملك يستحق عرش الصليب سوى يسوع؟
وضع الرب علامات صحيحة تعلن عن شخصية يسوع في العهد القديم. ونحن نستطيع أن نكتب عن حياة يسوع من العهد القديم:
الولادة من عذراء: "ها العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل." (سفر إشعياء)
الولادة في بيت لحم: "أما أنتِ يا بيت لحم أفراتة، وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا، فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطًا على إسرائيل، ومخارجه منذ القديم، منذ أيام الأزل." (سفر ميخا)
الهروب إلى مصر: "لما كان إسرائيل غلامًا أحببته، ومن مصر دعوت ابني." (سفر هوشع)
هو أعظم من علّم بأمثال: "أفتح بمثل فمي. أذيع ألغازًا منذ القدم." (مزمور 2:78)
يحب الأطفال: "من أفواه الأطفال والرضّع أسست حمدًا..." (مزمور 2:8)
الغيرة على بيت الرب: "لأن غيرة بيتك أكلتني." (مزمور 9:69)
يدخل أورشليم منتصرًا: "قولوا لابنة صهيون: هوذا مخلصك آت." "اهتفي يا بنت أورشليم. هوذا ملكك يأتي إليك. هو عادل ومنصور وديع، وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان." (زكريا 9:9)
يخونه واحد من أتباعه: "رجل سلامتي، الذي وثقت به، آكل خبزي، رفع عليّ عقبه!" (مزمور 9:41)
ويحصى كواحد من المجرمين: "من أجل أنه سكب للموت نفسه وأُحصِيَ مع أثمة." (إشعياء 12:53)
تُلقى على ثيابه قرعة: "يقسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون." (مزمور 18:22) ثم أخيرًا، عظمة منه لا تُكسر "يحفظ جميع عظامه. واحد منها لا ينكسر." (مزمور 20:34)
هل ترينا هذه استحالة الخطأ في معرفة المخلص المنتظَر؟ إن صرخة "أنا عطشان" هي التي ميّزته عن غيره. كل ما عمله دلّ عليه، ولكن أهم شيء هو إعلانه الأخير عن نفسه في الجلجثة. إن دعوة الالتفات إليه جاءت في وقت إرهاقه وعطشه لكنها كانت أقوى الكل. من يخطئ هنا في معرفة المخلّص يقع في مأساة أبدية.
رأينا في صرخةِ يسوع الظافرَ المنهوك والمخلِّصَ المنتظر. ولكن هذه الصرخة تذكرنا بصرخات أخرى تتباين معها:
هل يمكن أن يكون هذا الذي قال: "إن عطش أحد فليُقبِل إليّ ويشرب"؟
أهذا هو الذي وقف عند بئر يعقوب مع السامرية يقول لها: "كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضًا. ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد، بل الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية."؟
أيمكن أن يكون هذا الذي كان على استعداد لأن يطفئ عطش العالم كله، هو نفسه الذي بهمسة ضعيفة يقول: "أنا عطشان"؟ إنه لم يزل يقول: "أنا عطشان!" كيف يا سيد وأين؟ اسمعوه يقول: "عطشتُ فسقيتموني." فنسأل: "يا رب، متى رأيناك عطشانًا فسقيناك؟" فيقول: "بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم."
ارفع كأس الماء البارد إلى شفاه إخوة يسوع اليابسة...
قدّم كأسك له فهو عطشان إلى حبك له، وصلاتك إليه... وخدمتك له... وقلبك المكرَّس... في مثل هذه الكأس يرى الرب من تعب نفسه ويشبع! هل تبلّ شفاه يسوع اليابسة؟